أوراق التاريخ مادة درامية

أتخيله يقف على ظهر حصانه، ويمد بصره جهة السماء الملبدة بالغيوم، وهو يتابع بحركة عينيه كيف تلتصق السحب ويحدث البرق الذي يضرب جهة الجبال البعيدة، التي يمشي بتجاهها هذا الفارس وهو يردد عبارة (إذا أقبلت الفتنة عرفها العقلاء وإذا أحرقت عرفها السفهاء).
ككاتب أحاول تلمس خيوط الدراما الحياتية أجد إن هذا الكتاب هو مادة جاهزة لعملٍ درامي مشوق يعيد الاعتبار للدراما التاريخية من خلال هذا الجهد البحثي المضني الذي قام به الدكتور علي الريامي في قضية فاصلة في التاريخ العماني (قضية عزل الإمام الصلت بن مالك) ويصب في مصلحة الكتابات التاريخية الجادة التي تثري الفكر، وتنير دروب العتمة لوهج الماضي الذي كان شاهد على التنوع الفكري العماني، والثراء السياسي، وانعكاسات الاختلافات داخل حدود الوطن الواحد، وماذا هي النتائج التي يمكن أن نتحصل عليها كمتلقين؟ وهنا تحضرني مقولة تاريخية أطلقها صاحب الجلالة –حفظه الله - في العام 2000م بأنه "يجب إعادة كتابة التاريخ". هذا الكتاب جهد جديد ومتميز ومشوق في القراءة يأخذ من يمتلكه إلى عوالم وأسرار تاريخية لحقبة عمانية بامتياز من توقيع الدكتور الريامي.

الكتاب التاريخي كمادة مصدرية
يحتوي الكتاب في بنائه التركيبي على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. شملت المقدمة على التعريف بقضية عزل الإمام الصلت سنة 272هـ/885 م، ولماذا اختار الباحث هذا الموضوع؟ وبرر ذلك بأنه عبارة عن فكرة راودته منذ زمن، في دراسة حالة يمكن من خلالها إبراز الدور السياسي لعلماء عمان، فكان الاختيار على دراسة قضية عزل الإمام الصلت لما لها من تبعات في التاريخ السياسي والفكري لعمان في القرنين الثالث والرابع الهجريين/ التاسع والعاشر الميلاديين، ودراسة ما ترتب عليها من نتائج سياسية وآثار فكرية. كذلك تطرق الباحث في المقدمة لأهمية هذه الدراسة، ومنهجها، والدراسات السابقة التي تطرقت لهذا الموضوع وتوسع الدكتور الريامي في ذكر معظم المراجع الرئيسة التي استفاد منها وتعرضت للأوضاع السياسية وللقضايا الفكرية والفقهية التي حدث في عصر الإمام الصلت بن مالك وبعد عزله.
جاء الفصل الأول بعنوان: (عصر الإمام الصلت بن مالك الخروصي)، وتناول فيه الدكتور علي الريامي عصر الإمام الصلت بن مالك من خلال الحديث عن حياته ونشأته، ومؤهلاته، ومبايعته بالإمامة، كما قام الدكتور الريامي باستعراض أهم الأحداث التي وقعت في عصر الإمام على المستويين المحلي والخارجي وأبرزها حملت الإمام الصلت لاستعادة جزيرة سقطرى بعد أن استنجدت به زهرى سقطرى بقصيدة الشهيرة والتي قالت فيها " قل للإمام الذي ترجى فضائله، ابن الكرام وابن السادة النجب".
أما الفصل الثاني فجاء بعنوان:(حركة المعارضة وعزل الإمام الصلت بن مالك). قام الدكتور الريامي بسبر أسباب المعارضة على بقاء الإمام في السلطة وقضية عزله، فقام بالتحليل لأسبابها ودوافعها، والظروف التي أدت إلى نجاحها، وشرح الدكتور الريامي باستفاضة حول مواقف العلماء التي اختلفت فيها الرؤية بين مؤيد ومعارض وواقف على الحياد من قضية عزل الإمام.
حمل الفصل الثالث عنوان:( النتائج السياسية المترتبة على عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي). ركز الدكتور الريامي على الحرب الأهلية التي نشأت بسبب قضية عزل الإمام وأهمها موقعة الروضة التي حدثت على وجه التقريب في العام (273هـ/ 886م)، وموقعة القاع في العام (278هـ/ 892م) وتلك الموقعتين كانت شاهدة على دخول عمان في العصبية القبلية وما تبعها من اقتتال وانقسام هز الكيان الاجتماعي والسياسي وترتب عليه الاستنجاد بالوالي العباسي (محمد بن نور/ بور). كما شرح الدكتور الريامي الحملات الخارجية التي جاءت إلى عمان بدءاً بحملة محمد بن بور، وسقوط الإمامة الإباضية الثانية، مرورا بحملات القرامطة، والوجود البويهي في بعض الفترات التاريخية.
وفي آخر فصل في الكتاب وهو الرابع الذي حمل عنوان: (الآثار الفكرية المترتبة على عزل الإمام الصلت بن مالك). تطرق الدكتور إلى الجانب الفكري لقضية عزل الإمام وفيه تناول المدرستين الرستاقية (نسبة إلى ولاية الرستاق العمانية) والنزوانية (نسبة إلى ولاية نزوى)، تلك المدرستين اللتين شكلتا نقطتي الصراع السياسي الأبرز لقضية عزل الامام. ذكر الدكتور الريامي نشأتهما وسبب التسمية بالإضافة إلى ابرز علمائهما الذين كانوا في صدارة المشهد الفكري وجدله وساق نماذج من المدرسة الرستاقية وأهمهما( ابن بركة، محمد بن عبدالله بن محمد السليمي) و (أبو الحسن،علي بن محمد بن علي بن الحسن البسيوي الأزدي اليحمدي). أما أبرز علماء المدرسة النزوانية فكان (الشيخ العلامة أبو عبدالله، محمد بن روح بن عربي الكندي) و (أبو سعيد الشيخ العلامة محمد بن سعيد الناعبي الكدمي).
شملت الخاتمة على عدد من النتائج التي لخص بها الدكتور الريامي حصيلة أربع فصول من البحث والتقصي وخلص إلى إن فترة إمامة الصلت بن مالك حتى ظهور فكرة عزله كانت فترة مزدهرة بحكم الاستقرار السياسي والقوة العسكرية والرخاء الاقتصادي الذي ورثه من الأئمة السابقين عليه، غير أن الظروف التي واجهته في النصف الثاني من إمامته، كالأمطار الغزيرة التي اجتاحت البلاد في الخمسينات من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، بالإضافة الى تقدم العمر به بعد أن حكم لفترة طويلة من الزمن امتدت لأكثر من خمسة وثلاثين عاما قد أضعف من قدرته على إدارة شؤون الإمامة، واتاح الفرصة للبعض من العلماء وبتأييد من بعض زعماء القبائل لتشكيل حركة معارضة دعت إلى عزله. ثارت العصبية القبلية بين اليمانية والنزارية على اقتسام السلطة، وانقسم المعارضون على أنفسهم، فكانت الانقسامات الداخلية والفتن والحروب الأهلية، كفيلة بإسقاط نظام الإمامة على يد قوى خارجية، كانت تتحين الفرصة للاستيلاء على عمان. وعلى الرغم من تدهور الأوضاع السياسية في عمان إلا أنَّ الإنتاج العلمي للفقهاء لم يتوقف، بل أن قضية عزل الإمام الصلت بن مالك أفرزت موروثا فكريا ما كان ليرى النور لولا تلك القضية.
أحتوى الكتاب كذلك على عدد من الملاحق كخارطة توضيحية لخط سير حملة الإمام الصلت بن مالك لاسترداد جزيرة سقطرى، وخريطة لأهم مواقع الحرب الأهلية، وخريطة توضح هجرة بعض سكان المناطق الساحلية إلى هرمز وشيراز والبصرة بعد سماعهم بوصول حملة محمد بن نور إلى عمان، وخريطة لخط سير حملة محمد بن نور إلى عمان، والملاحق الخاص بأسماء العلماء الذين شملتهم الدراسة، مع بيان مواقفهم من قضية عزل الإمام الصلت بن مالك وأهم إنتاجهم الفكري.
كتاب (قضية عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي) يتكون من 278صفحة من القطع المتوسطة، وهو من الإصدارات العمانية للعام 2015م، للباحث الدكتور/ علي بن سعيد الريامي (أستاذ مساعد بقسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس). نُشر الكتاب بالتعاون بين النادي الثقافي والبرنامج الوطني لدعم الكتاب العماني من مجلس البحث العلمي، وطباعة مؤسسة بيت الغشّام للنشر والترجمة بسلطنة عمان.

التاريخ والشخصيات التاريخية منبع خصب للدراما
في لعبة الجولف يتأهب اللاعب لرمي كرة واحدة داخل حفرة بعيدة لا يستدل عليها الا من خلال الرايات التي تمنح رؤية الهدف بوضوح، كذلك التاريخ وشخصياته تتوفر فيها مقومات اللاعب الذي قام بالحدث ورمي الكثير من الكرات المنثورة أمام العديد من الحفر وما على الكاتب الدرامي الا تحديد الراية الصحيحة التي تقود للحفرة الهدف، ففي ظل الشكوى المتكررة في الدراما المحلية والعربية بأن هناك نقصا حادا في الكتابات الدرامية الجادة ـ تحديدا في السلطنة هناك تكرار منذ الثمانينات لهذا النقص في الكتابة الدرامية! - والذي يعلق عليه ضعف الدراما المعروضة، لذا وجب الإشارة هنا بأن مثل هذه الكتابات التاريخية الحديثة التي تخرج من باحثين جادين هي أحد الحلول الواقعية لسد هذا النقص، وترميم البيت الثقافي والتاريخي بمعلومات علمية وحصرية عن مرحلة إنسانية تفرقت ما كتب عنها في شذرات في بطون الكتب، وبدوره الباحث التاريخي والكاتب الدرامي يمكن أن ينجحا في تسليط الضوء على القضايا المجتمعية القديمة التي تقدم الحلول والعبر لنماذج تتشابه وتتقارب من خلال الواقع المعاصر في المحيط الدولي الكبير وتستشرف الدراما المستقبل القادم الذي يمكن أن تطفئه النيران التي تتولد من مستصغر الشرر.

د. سعيد بن محمد السيابي
باحث أكاديمي في جامعة السلطان قابوس
نائب رئيس النادي الثقافي