عندما سنّ المتشددون من علماء العربية القدماء قواعدهم وأحكامهم كان لهم ما يسوّغ مسلكهم ذاك ، فقد كانوا ينطلقون من حرص صادق على صون الألسنة والمحافظة على سلامة العربية نقية من عيوب النطق واللُّكنة واللحن ، ولكن نفراً منهم كان يكسر حدّة هذا التشدد بابتكار أساليب جديدة في الاستخدام المجازي والقياس والتوليد والاجتهاد ، وإن الدارس لتراثهم اللغوي لا يمكن أن يغفل مكانة المحاكمة العقلية عندهم ، بل إن سياقة الحجج والبراهين والأدلة ، وسيادة مناهج الجدل والمناظرات اللغوية في حلقاتهم العلمية ومجالسهم كل ذلك يدل دلالة واضحة على القبول بمبدأ الاجتهاد في القضايا اللغوية ، وخير شاهد عليه نشأة المدارس وشيوع المذاهب والآراء اللغوية المتعددة. صحيح أن المتنبي وأبا تمام وغيرهما قد واجهوا من نقد النحاة ما واجهوه لمخالفتهم الأصول التي كانت محل قبول وإجماع عند جمهور أهل اللغة ، ولكن هؤلاء الشعراء لم يلحقوا الضرر أو يترخّصوا في أمور اللغة الأساسية ، أو يقللوا من منزلة قدسيتها ، بل لقد أغنوها بما أعلى من شأنها وزادها سعة وتجديداً. وأعني بذلك : التجديد الذي لا يخل بسلامة المعنى اللغوي فيصيّره محل التباس وصعوبة توجيه. وإننا لنسمع في أيامنا هذه من يغالي في التشديد ويبالغ في تقييد الكتّاب بقيود صارمة يستحسن التخفف منها ، من ذلك مثلاً قولهم أن العرب لم تعرف كلمة التطور ، أو تستخدمها في كلامها الذي يحتج به. فماذا تعني هذه الذريعة التي يحتكمون إليها؟
إن قولنا ( التطور ) يعني وجود فعل هو ( تَطَوَّر ) أو يعني ـ كما يقول النحاة ـ الاشتقاق من ( طَوْر ) فماذا يمنع الكاتب من استخدام هذا المسلك؟ لقد اشتقت العرب من أسماء أعيان مشابهة أفعالاً ومصادر مماثلة فقالوا : تَرَجَّلَ إذا مشى راجلاً ، و رَجَّلَ شعره ترجيلاً ، و ارتجل الخطبة أو الشعر : ابتدأهما من غير تهيئة من قبل ذلك. وقالوا من الرأس : تَرَأَّس ، ومن القوس : تَقَوَّسَ ، ومن الوتر : تَوَتَّرَ ، والتوتر وعلى هذا نقول في تعابيرنا المحدثة : التوتر الدولي ، وتوتر العلاقات ، وقالت العرب : تمشَّط ، وكانوا يعرفون الماشطة التي تقوم بتمشيط المرأة المنعّمة ، وذلك من المشط ، كما قالوا : تلك حجة دامغة من الدماغ ، فهل نقبل بعد هذا كله بلفظة ( التطور ) قياساً على ما سبق وعلى ما يمكن أن يقبل به العقل والحس اللغوي ، أم نحظر على الكتّاب استخدامها وأمثالها مكتفين من تعليل الحظر بقولنا : هذا مما لم تقله العرب ؟
بل إننا مع التطور البنّاء الذي لا يفضي إلى إخلال بالأصول أو التباس في الفهم.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]