الساعة كانت قد تجاوزت منتصف الليل في مركز حفيت الحدودي.. ليس سوى بعض شاحنات النقل الدولي متوقفة أمام منطقة التخليص الجمركي.. على الرصيف ينتظر السائقون بتذمر وملل.. الشرطي الوحيد الذي يراقب عبور المغادرين رفع يدا واحدة بالتحية حين مررتُ أمام نافذته..
منذ أن أغلقت سماعة الهاتف قبل أقل بقليل من الساعة وأنا لا أفكر الا في صوته المنهك .." أنا أمام غرفة التحضير في مستشفى البريمي الآن.. سأدخل بعد ساعتين غرفة العمليات .. كإجراء أخير يقوم به الأطباء لإنقاذ حياتي التي يئسوا منها.. لن أخرج بعدها ..ليس لدي شك في هذا.. أريدك أن تكون بجانبي ..تتأكد من إغلاق عيني جيدا قبل أن توقع على استمارة استلام الجثة.. وأن تسير خلف سيارة نقل الموتى إلى مقبرة البلدية.. المستشفى سيتكفل بكل شيء.. فقط لا أريد أن أشعر أنني وحيد ولو لمرة واحدة في حياتي .. أريد أن تودعني وأنا ألامس تربة القبر.. أرجو أن لا تخذلني.. كان ينطق جملته الأخير بصعوبة.. وقبل أن أرد عليه أغلق المكالمة...
تجاوزت المطب الأخير الذي كان هو الفاصل الوحيد بين البلدين لسنوات طويلة.. اخرجت بطاقتي الشخصية وبطاقة إثبات ملكية السيارة استعدادا لتقديمها إلى موظفي الحدود في مركز مزيد.." صباح الخير " قلت.. " صباح النور " رد . تناول البطاقة وأدخل البيانات ثم أعادها مع ورقة كتب عليها بشكل طولي الرقم (1)..ولأنني كنت العابر الوحيد وجدتني أقف في نقطة التفتيش مباشرة بمجرد أن رفعت قدمي من فوق ذراع المكابح السفلي...الشرطي كان على وشك أن ينهي حديثا مع آخر كان يقف بجانبه ويظهر أنه أعلى منه رتبة... ناولته الورقة كي يختمها قبل أن اسلمها للعسكري في الحاجز الأخير.. كان متوقعا كالعادة أن يختم الورقة ويقول بلهجته المحببة " توكل على الله " لكنه هذه الليلة التي أحتاجُ فيها لكل جزء من الثانية طلب مني أن أترجل وأفتح حقيبة السيارة ..أخذ يبحث في المساحة الفارغة داخل الحقيبة كمن يوقن بأنه سيجد شيئا.. وجد حزمة نعناع جافة ومتعفنة سقطت من كيس التبضع منذ مدة.. أخذ بعضا منها ووضعه على راحة يده..فركها ثم قربها من أنفه..عطس وفرك أنفه ثم ناولني الورقة .. سلمت الورقة لليد الممتدة من نافذة غرفة مراقبة الحاجز الأخير وأنا أفكر في الرجل الذي يحتضر في مستشفى البريمي والذي لا أعرفه إطلاقا ولا أعرف كيف وصل إلى رقم هاتفي ولماذا اختارني أنا بالذات من بين ثلاثة ملايين شخص لكي أكون بجانبه وهو يلفظ نفسه الأخير..

سعيد الحاتمي