[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” حين هاج بعض الناس وماجوا في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز قال له بعض ولاته إن الناس تمردوا واضطربت أحوال الأمة ولا يقومهم إلا السوط فقال عمر كذبتم وأخطأتم بل لا يقومهم إلا العدل. عادت إلى ذاكرتي هذه الحكمة الإسلامية وأنا أتابع مداولات المجلس التشريعي التونسي هذه الأيام حول قانون المجلس الأعلى للقضاء...”
ــــــــــــــــــــــــــ
يعيش العرب وخاصة منهم الذين يعانون من الصراعات الأهلية في العراق وسوريا واليمن وليبيا حالة من افتقاد البصيرة كأنما أصابتهم لعنة التيه بدون بوصلة وهم يتحركون على حقول ألغام. وأضف إليهم العرب الذين مروا بتجربة ما سمي (الربيع) المجهض وتغيير المنكر مثل مصر وتونس بعد أن انتفض شعباهما ضد استبداد رجل واحد تحيط به أسرة نهمة وشلة مستغلين، فهما أيضا تعانيان مظاهر العنف لأنهما لم تجدا أجوبة صحيحة لمعضلات حقيقية. وأعتقد أن العالم العربي أحوج ما يكون إلى خارطة طريق راشدة سبق أن سماها الوزير المصلح خير الدين باشا (أقوم المسالك) وقد أدركت شخصيا عند التصاقي ثلاث مرات بشؤون السياسة (سامحني الله) أن النخبة العربية تخطأ تشخيص أمراض العرب ومن الطبيعي أن تخطأ توصيف العلاج.
إن أبرز سؤال يطرح اليوم على الضمائر العربية هو:" أين تكمن أسباب الإرهاب؟" ومن ثم "كيف نقضي على الإرهاب؟" وهنا نجد الخطأ في التشخيص والخطأ في توصيف العلاج. ففي مصر كما في تونس تنشط تيارات الردة ومحاولات اعادة إنتاج الاستبداد والتفنن في إلباسه لبوس الديمقراطية والليبرالية فزينوا الدساتير بشعارات حقوق الإنسان وحرية الضمير والمساواة بين المواطنين حتى ظهرت الدساتير العربية الجديدة أرفع شأنا وأوفر ضمانات من دساتير سويسرا والسويد والنرويج، لكن فوجئت هذه النخب بأن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لم تجد حلولا وأن الظلم زاد عن ذي قبل وأن الشباب المهمش ازداد تهميشا وأن الغرب الذي حاولت نخبنا العلمانية المدعية الحداثية إرضاءه واستجداء عونه لم يعط لهذه النخب التابعة سوى الكلمات المعسولة والوعود المنومة فالمعونات المالية شحيحة والقروض مجحفة ولم يسمع الماسكون الجدد بزمام أمورنا من أفواه حكام الغرب ومن منظماته الدولية إلا المواويل المهدئة في حين تفاقم العنف في الشوارع وامتدت الاضرابات وتكاثرت الاعتصامات وانعكست حالات انعدام الأمن على القطاع السياحي فجفت ينابيع العملة الصعبة وتنادت أصوات الغربان الجهولة بأن الإرهاب يقاوم بالسوط وطالبوا بقمع الحريات والعودة للترهيب للقضاء على الإرهاب !. والحقيقة التي تغافل عنها هؤلاء هي أن الإرهاب وليد الاستبداد وأن العنف ابن شرعي للقهر فكيف نداوي بالتي كانت هي الداء؟ وأتذكر يوما جمعتني صدفة سعيدة بالمستشار الألماني الأسبق (جيرهارد شرويدر) بعد مغادرته السلطة فسألته كيف قضت الحكومة الألمانية على إرهاب (بادر ماينهوف) المسلح الذي قتل الناس وفجر المرافق العامة في ألمانيا في السبعينيات ؟ هل ألغت الحكومة الدستور؟ وهل تراجعت عن الديمقراطية؟ فقال لي المستشار مستنكرا:" لا أبدا بل كنا نؤمن أن الإرهاب ولد من رحم خلل في الديمقراطية وأزمة في مدونة الحريات العامة وإفلاس في برامج التربية والتعليم وفوضى في توزيع خيرات البلاد فبادرنا إلى إصلاحات هيكيلية كبرى ودعمنا المسارات الديمقراطية وطورنا أداء الآليات الديمقراطية وقاومنا مظاهر الفساد فقضينا على الإرهاب بالمزيد من الحريات". هكذا قاوم الألمان الإرهاب! بالعدل لا بالسوط فنجحوا وفشلنا.
حين هاج بعض الناس وماجوا في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز قال له بعض ولاته إن الناس تمردوا واضطربت أحوال الأمة ولا يقومهم إلا السوط فقال عمر كذبتم وأخطأتم بل لا يقومهم إلا العدل. عادت إلى ذاكرتي هذه الحكمة الإسلامية وأنا أتابع مداولات المجلس التشريعي التونسي هذه الأيام حول قانون المجلس الأعلى للقضاء وهي هيئة دستورية ينص عليها دستور ما بعد الثورة غايتها الطبيعية أن تجسد استقلال القضاء كسلطة من السلطات الثلاث لا تستقيم الديمقراطية ولا تصان الحريات إلا متى نجحت بلادنا و أي بلاد سواها في التفريق بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) كصمام أمان أساسي ضد الظلم والقهر والاستبداد وضد السلب والنهب والفساد. وكنا دائما في سنوات الجمر التونسية نقول ونعتقد أن القضاء في بلادنا هو بيت الداء وقد سن الزعيم بورقيبة (كما سن زعماء العرب من جيل المؤسسين جميعا بلا استثناء) تقاليد استعمال جهاز القضاء للقضاء على الخصوم وأصبحت المؤسسات القضائية في أغلب دواليبها ذراعا رهيبة يستعملها الرئيس (وهو ملك بلا تاج) لإسكات المعارضين وإذلال المخالفين وبخاصة في الأنظمة التي جاءت مباشرة بعد استقلال الشعوب العربية فأطاحت بأنظمة ملكية تقليدية وأعلنت أن عهد (الجمهوريات) أزف فافرح يا شعب وهلل وزغردن يا نساء فقد انقضى عهد الملك وجاء عهدك يا مواطن لتختار عبر صندوق الإقتراع من يحكمك بكل حرية وبكل شفافية !!!! ونفي الملك المصري إلى إيطاليا، وفي تونس تمت إهانة أخر ملوك تونس بالمحاكمات الكيدية وفي العراق قتل الملك فيصل هو وأفراد أسرته سنة 1958 وكذلك شأن بقية ملوك العرب!
أعتقد أن سر اخفاقنا العربي يكمن في أننا عشنا بالرغم منا انتفاضات شعبية حقيقية ضد الفقر والتهميش والظلم لكننا لم نقرأها كما يجب ولم نوجهها نحو بناء المواطنة بل حاول كل متسلق وصاحب مصالح أن يركب فرسها الجامح ويحول مجراها نحو نهره الخاص فأصبحنا نعيش حالة التصحر الحضاري والخواء الفكري إلى أن وصلنا إلى مرحلة التخطيط لإعادة الأسد الشعبي المتمرد الحر إلى قفص السيرك واستعمال السوط إذا ما زأر أو تحرك أي الرجوع إلى جينات العرب القديمة الخاضعة بالفطرة للسمع والطاعة! ولكن أخر دعوانا للمتلاعبين بمصائر الشعوب هو التذكير بالحكمة القائلة: إذا رضيت الشعوب أن تكون قطيع أغنام فلا تلومن نخبها الحاكمة أن تتحول إلى ذئاب.