دخل الضابط ومعه ثـلاثة من افراد الشرطة بانتظام الى غرفة التحقيق، جلسوا على الكراسي حول الطاولة في وسط الغرفـة، ووجهوا أنظارهم الى الرجـل النـحيف الغائر العينين الأشعث الذي يجلس وحيدا في مواجـهـتـهم، يـرمقهم بنظرات مـترقبـة.
فتح الـضابط المـلف الذي أمامه ووجه سؤاله للرجل: هل انت المعلم خلفان، قال نعم انا المعلم خلفان، على الرغم من انني لم أتعلـم إلا الى المرحلة الدراسـية الاعداديـة، وانما لقبوني بالمعلم، ولكن صدقوني، انا انسان بسيط أعيش على هامش الحياه، وكان بالماضي ليس لدي شيء في هذه الحياة، عامل في إحدى الشركات الكبرى، أنـظف صالة مدخل الـشركه كل صباح، ويمر عليّ الموظفين في الشركة دون أن يكلف أحدهم نفسه بالسلام عليّ. ولماذا يسـلمون عليّ ويحترمونني في ذهابهم وإيابهم، فالمصلحة لديهم معي منتـفيه، والدنيا كما يقال مصالح، فـلا أبـلغ فائدتهم فافـيدهـم، ولا أصل لمضرتهم فاضرهم، ضعيف الحال والمـال، فلهذا اعتبروني غير مـوجود برغم وجودي.
أرفع عيني عن المكنسة لأرى أحدهم قـادما فيشيح بوجهه عني، أبادر أحدهم بالسلام فيغـمـم بكلمات غير مفهومه غير راغب في رد السلام ، وكأني اطلب منه صدقة، أو اقـتـحم مجاله الذي لا مكان لي فيه.
مسرعون الى مكاتبهم الوثيرة المزودة بسائر وسائل الراحة، من مكيفات، وهواتف، وأجهزة حاسوب، وانا أتحرك الى غرفة المخـزن لأرتاح قليلا ، منهكا من التنظيف الذي لا ينتهي، والمح في عيون البعض الاستخفاف وعدم الاكتراث بي وبوظيفتي، وهذه الـوظيفة تـؤدي خدمه للمجتمع، ويجب احترامها واحترام هؤلاء الذين يعملون بها، ولولا هذه المهنة لعمت القمامة والفوضى أرجاء المكان. لكن لا أفهم هذه العقـلية التي تستخف بالآخـرين ومهـنهم الشريفة، على الرغم من أنه لا توجد مهنه حقيرة بل يوجد أناس لايحترمون العمل ولا يقدرونه أي كان طبيعة هذا العمل.
قال الضابط : الى هنا وكل شيء تمام، فأنت كما قلت تمارس مهنة شريفة تخدم المجتمع من خلالها، وأنت بلا شك تستحق عليها الثناء والتكريم وعدم الأزدراء والتجاهل من المجتمع لك ولكل العاملين في مثل هذه المهن البسيطة.
ولكن نحن لم نأت بك لأجل هـذا، وانما اتينا بك لأنك تمـارس هذه المهنـة ومعها تـمارس مهنة الشعوذه.
قال خلفان: صدقوني كما قلت لكم، في العمل لم يكن أحد يكترث بي أو يهتم لأمري. الى ان أتاني أحد موظفي الشركه ليخبرني بأن إحدى أخواته كانت بخير، وفي صحة وعافية، وفجأة تغير حالها واصبحت احيانا تصرخ، واحيانا تكسر بعض الاشياء في المنزل، واحيانا تراها جامدة لساعات تنـظر الى السقف.
ولأن هذا الموظف استشارني في هذا الموضوع، اعجبني الاهتمام الذي منحني إياه، وطريقة حديثه إلي، وكأنه يطلب مني العلاج، وانا الذي الذي لا أحد يطلب مني شيئا إلا تنظيف الأوساخ.
طلبت منه ان يوصلني الى أخته ، فذهبنا معا. فوجدت نفسي أقرأ عليها بـعض الآيات القرآنية الكريمة، وامسح على رأسها، بينما انا أقرأ بصوت هادئ خافت مرتل، واذا بالمرأة تهدأ وتستكين، فأخذ هذا الموظف يستدعيني الى منزلهم عدة مرات في الاسبوع لأقوم بذلك، ويجزل لي العطاء.
الى أن اخبرني بأن أخته شُفيت ورجعت الى طبيعتـها الى حد كبير، فلم تعد تصرخ، ولا تكسر الاشياء، وخرجت من أزمتها الصعبة، وربما لم يكن لي دور في الموضوع ، أو ربما الآيات القرانية كانت عاملا مساعدا في الشفاء، او ربما هي حالة نفسيه عصبيه مؤقتة مرت بها المرأة ، لا أعـلم.
بعد هذه الحادثة تغيرت أحوالي ، فهذا الموظف نشر بين الموظفين خبر معالجتي لأخته وشفائـها السريع حين لم يستطع الاطباء علاجها، على حسب قوله.
فصار الجميع في الشركه يمرّ علي ويصافحني ويتبادل اطراف الحديث معي، ويعرضون عليّ خدمـاتهم، ويدعونني الى مكاتبهم لشرب الشاي أو القهوة.
وخصص مـدير الشركه لي مكتبا كالموظفين الآخرين، وعين اثنين من العمال ليقومـوا بأعمال النظافة عني وجعلني مشرفا عليهم.
وكان لدى المدير أحد ابنائه يعاني حاله غير طبيعية، فلا يريد ان يخرج من البيت، او يمارس أنشطة الحياه العاديه ولا يشتهي الاكل ولا الكلام. واخذني لعلاجه لعدة جلسات. ولا يزال يأخذني الى منـزلهم لاستمـرارية العلاج، ويقول بـأن القراءة مني تساعد المريض كثيرا ، وانه يتحسن وان شاء الله سيشفى عما قريب.
وبعدها بدأت الناس تتدفق عليّ في مسكني، وكل له احتياجه، فمـنهم من يريد ان يشفى من اسقامه، ومنهم من يريد ان يـترقى في وظيفته، ومن النساء من يردن ألا يطلـقهـن أزوجهن او يتزوج عليهـن، وغير المتزوجات المقتربات من العنوسه يأتين لإزالة نحس عدم زواجهن. ومن الناس من يأتي لفك السحر والحسد وعدم التوفيق.
وانا ماذا افعل ايها الضابط ؟ جعلوني معلما، لم تكن لدي الألقاب فمنحوني الألقاب، ولم تكن لدي الشهرة فأعطوني الشهرة، ولم يكن لدي المال فأغدقوا عليّ المال، فهل أرفض كل ذلك ؟
في البدايه قلت لهم بأنه ليست لدي قدرات خارقة، ولست وليا ولا شيخا ولا معلما فلم يصدقوا. فـمشيت مع طلباتهم، وبعض الحالات شُفيت من تلـقاء نفسها فنسبـوها اليّ ، ولا شافي الا الله، وبعض الموظفين ترقوا في وظائفهم، وبعض النساء تزوجن، وبعض المتزوجات حافظن على ازواجهن، وبعضهم شفى من أمراضه وأنجلى عنه السحر والحـسد وسوء التوفيق، ولانهم أتوا الي قالو ا بأني اعنـتهم ولا معين الا الله.
اناس مهمومون متعبون حائرون تائهون فـي هذه الحياه، ولهـذا يأتون بمحض إرادتهم، منهم الاطـباء والمهندسون والمحامون والمثـقفون وغيرهم من الناس، فهل امتنع عنهم واغلق بابي دونهم وقد آمنوا بقدراتي ؟ اخبرني ايها الضابط ؟ هل انـا مذنب أم هؤلاء الذين اتوا اليّ في حوائجـهم مذنبون؟. أم انهم أبرياء وانا مثلهم بريء في هذه الحياة الصعبـة التي نتعلق فيها بأي أمل، حتى ولو كان هذا الأمل كاذبا.

نمير بن سالم آل سعيد