[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
بمبادرة من مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم انتظم في مسقط أسبوع للوئام العالمي من 2 الى 6 فبراير الجاري وكان لي شرف المشاركة فيه إلى جانب الزميل الأميركي جيمس زغبي رئيس مركز الحوار الأميركي العربي والصديق الأستاذ د.إبراهيم صالح النعيمي رئيس مركز الدوحة لحوار الأديان وعدد من الخبراء العرب والألمان والنمساويين واليابانيين والصينيين تخصصوا في حوار الثقافات وتحالف الحضارات إلى جانب زملاء لنا من الإخوة العمانيين فكانت ورقات العمل التي أعددناها متكاملة وذات أصول فكرية واحدة رغم أننا جئنا من بلدان متباعدة جغرافيا ولغويا ودينيا لكنها اجتمعت على ترسيخ وتعميق ثقافة التسامح وسماع الآخر واحترام المختلف والسعي إلى تقريب بني البشر وجمع كلمتهم حول ما يربط بينهم وهو كثير وتلك في الحقيقة الرسالة الكبرى للإسلام الذي خاطب الذين أمنوا ويا أيها الناس أي جاء القرآن موحدا و مكملا لما قبله من الكتب والرسل.
فقد برزت من خلال ورقاتنا وحواراتنا حزمة من المبادئ السامية التي اكتشفنا بأنها تعتمد كعقيدة حضارية في السلطنة أسست عليها الدولة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس ـ حفظه الله ـ مرتكزاتها في التعليم والثقافة والدبلوماسية فكانت لها نبراسا هاديا وسمحت للبلاد أن تنهض بشكل سريع وليس متسرعا وأن تثبت دعائم حضورها المتألق في المحافل الدولية، وأنا بحكم معايشتي للتوجهات القطرية أدركت بأن تجارب الدوحة وتجارب السلطنة كانت رائدة في هذا المجال من أجل إقرار حوارات مستمرة ومعمقة بين الأديان والثقافات كأول شروط السلام العالمي بعد أن تأكدت البشرية بأن انقطاع التواصل بين مختلف الحضارات هو السبب الأول للتجاهل فالتناحر ثم الحروب المدمرة بينما خلق الله سبحانه الناس شعوبا وقبائل لتعارفوا مؤكدا عز وجل بأن أكرمهم عند الله أتقاهم.
كانت اللقاءات ثرية خلال هذا الأسبوع تناول فيها المشاركون تحليل قضايا العلاقات بين التراث والحداثة وبين الأصول والمكاسب وبين الاعتدال والسلام وبين المبادئ النظرية وتطبيقها على الواقع ثم بين السياسة والفكر وبين أصحاب الأمر وأصحاب الرأي. أي في الحقيقة هذه الملفات العربية التي كان مسكوتا عنها وكشفت أحداث ما يسمى بالربيع العربي عن حرارتها وصمودها في وجه الزمن لأن الجماهير التي غيرت بعض مظاهر المنكر الاستبدادي شعرت ووعت بأن الهوية الحضارية التي سلبت منها بوقع الاستعمار الغربي التنصيري ثم مفعول الأنظمة الشخصانية التغريبية التي ابتلينا بها ثم و أخيرا بوقع العولمة المغشوشة التي أرادت فرض السيطرة الدخيلة على أمتنا إنما هي هوية مستلبة ولابد من استعادتها حتى تكون حداثة العرب حداثة أصيلة وليس الحداثة الدخيلة وهذه النظرية التأصيلية هي التي اتفق عليها أغلب المشاركين بعد أن أدركنا خلال السنوات القليلة الماضية بأننا كعرب مهددون بأن نعوض الاستبداد بالفوضى ونعوض الحاكم الفاسد بالحاكم العاجز كما هي خال البلدان التي عاشت سنة 2011 تقلبات عجيبة و انتفاضات جذرية.
و العلاج الذي اقترحته في ورقتي للتخلف العربي هو أن نتبنى الحداثة الأصيلة وذلك بتفعيل آليات التربية والثقافة وإعادة الروح للتراث القوي النافع وضربت على صحة نظريتي الأمثلة الحية الماثلة أمامنا اليوم فقد بدأت النهضة الإصلاحية في كل من اليابان والعالم العربي تقريبا في نفس العشرية أواسط القرن التاسع عشر فانطلق اليابانيون بقيادة أسرة المايجي في اكتساح مجالات العلوم وإنشاء الصناعات متعاونين في ذلك مع كل أمة كبرى سبقتهم في ثورتها الصناعية كما يفعلون اليوم مع التقدم التكنولوجي والرقمي المذهل. لكن اليابان حافظت على مخزونها التاريخي من تقاليد عريقة وأخلاق فردية وجماعية تميز شعبها ولم تتنكر لا للغتها ولا للباسها ولا لعاداتها فالبيت الياباني اليوم يخضع كالمجتمع الياباني بأسره إلى طقوس منغرسة فيه منذ آلاف السنين كانت ولاتزال هي روح اليابان وهذا نموذج للحداثة الأصيلة التي صنعت تقدما وقوة وصناعة وبوأت تلك الأمة منزلة عالية بين الأمم.
وفي نفس العشرية بدأ العرب نهضتهم على أيدي محمد علي في مصر وعلى أيدي الوزير خير الدين باشا في تونس فشرع العرب يفكرون في الصناعة والتعليم وتنويع مصادر الثروة وسافرت بعثات من الشباب المصري والشامي والمغاربي للتعلم في جامعات الغرب، لكن العرب منذ احتكاكهم بالمستعمر فقدت أغلب نخبهم المتعلمة ثقتها في محركات الحضارة العربية الإسلامية ومع تضافر المؤامرات والحملات الصليبية الاستعمارية الجديدة تم في أغلب أرجاء العالم العربي تبني النمط الحداثي المستورد من أوروبا كوصفة جاهزة للتقدم. ولم ينفرد بورقيبة بهذا التوجه بل كان أغلب زعماء الاستقلال العرب يستنسخون النماذج الغربية الجاهزة بوجهيها الليبرالي والاشتراكي.
وللحقيقة فإننا شهدنا على قوة ورسوخ النهضة العمانية التي جمعت بين الأصالة والحداثة في تناغم ناجح وذلك في المعمار وطريقة التدرج الديمقراطي الحقيقي ومناهج التربية و التعليم و أفضل مثال هو العودة برسالة الجامع إلى سالف اشعاعها حيث يزخر جامع السلطان قابوس بالفعاليات الثقافية والمرجعية والتي تواكب العصر كما إن دار الأوبرا تعج باللقاء العالمي بين أصناف الموسيقى الراقية والفن المبدع. وأتاحت لنا زيارات ميدانية الإطلاع على لا مركزية النهضة فكانت كل محافظة تبتكر مسالك تنميتها دون القطع مع ماضيها وأمجادها. فالتحية لكل من ساهم في إنجاح الأسبوع ومن جمعنا على خير ما فينا و من فتح أبواب التحالف الضروري للحضارات.