الروائي والناقد السوري نبيل سليمان جمعني به لقاء مفتوح في مقابلة تلفزيونية على تلفزيون الشارقة أثناء ملتقى الشارقة الحادي عشر للسرد "هل الرواية سيدة الأجناس الأدبية؟" وكنا نتحدث عن الكتابة الروائية الشبابية، ومن جملة ما أشار إليه نقطة نظام حول الإنتاج الروائي بعد ثورات الربيع العربي، إذ أنه أحصى ما يقرب من ست عشرة رواية تم كتابتها في فترة قصيرة، والثورات ما زالت لم تنضج ولم تكتمل ملامح يومها ولم تستقر مكاسبها بعد، فكيف هو الآن الإنتاج الروائي بعد مرور خمس سنوات؟ فالإجابة هناك تضاعف أكبر حول المكتوب عن هذه المرحلة الزمنية الطارئة التي قدمت العديد من المفاهيم والقيم وخلقت خارطة ثقافية أخرى لعوالم الرواية والاشتغال السريع على ما قامت به هذه الثورات واحده من التحولات التي يعيشها المبدعون العرب في القرن الحادي والعشرين، وما انتجته الأقلام الروائية التي عاش بعضهم تفاصيلها والآخر قرأ عنها وشاهدها في وسائل الاعلام أو تابعها في وسائل التواصل.
على الصعيد المحلي العماني تحصلتُ إلى الآن على روايتين حملت جوانب مهمة من هذه المرحلة التاريخية وناقشه التحولات التي قام بها الربيع العربي وتحديدا ما حصل في مصر، وهي رواية (الذي لا يحب جمال عبد الناصر) لسليمان المعمري، وهذه الرواية الجديدة (ثورة بورا) هي الرواية الأولى للكاتب العماني خليفة سليمان، والذي عرف بنفسه في نهاية الكتاب بأنه " يكتب في المجلات والصحف وفي بعض المواقع الالكترونية" ص259. وهذا التوصيف للمؤلف وضح جليا في هذا النص السردي الطويل الذي يستفيد من قرب الكاتب من الصحافة ومواقع التواصل الالكترونية وهذا ما سنكشفه في هذه القراءة.
قدم لهذه الرواية الناقد الدكتور علي الكلباني إذ تخيلها بأنها دراما ولكنها ليست ككل دراما فهي بالنسبة له " الدراما المثيرة التي تنجح في الجمع بين الواقع والمتخيل والسطح والعمق لتعالج قضايا الإنسان من خلال استبطان النفس الإنسانية. ولقد استطاعت رواية (ثورة بورا) أن تنجز ذلك باستعمال بارع للوسائل السردية الحديثة والحوار بأنواعه والوصف والتأمل وغيرها من الطرق.. وفي المشاهد المتلاحقة للرواية كان التنافس بين العقل والجسد واضحاً ومستمراً" ص 7 واقتراب هذا العمل الادبي من الدراما كما وضح الدكتور الكلباني واضح وجليّ مع الصور واللقطات التي يشرحها خليفة سليمان لغويا وباهتمام متميز .
عند قراءة رواية (ثورة بورا) الصادرة من "الكوكب" دار نشر تابعة لمجموعة رياض الريس الشهيرة بالدراسات السياسية والتاريخية والفكرية والسير في عام 2014 يتمكن القارئ بداية من أن يعتبر هذا العمل الروائي العتبة الأولى التي دخل من خلالها خليفة سليمان إلى العالم السردي الطويل إذا أن الصداقة تكونت لدى شخوصه أكثر من المصلحة بحيث ما ظهر في مخيلته أسقطه كتابيا على الورق دون إعادة للقراءة وانتقاء للتكثيف الممنهج الذي يجعل القارئ يعيش حالة الاسترسال الذي لا يقطعه انفصال، فعلى سبيل المثال نجد خليفة يحفر في الأحداث العربية في كتابته إلا أنه يسقط على الراهن العماني في موسم الربيع الثائر، ويقارن بصدق بين الأحداث وسلوك المجتمع وتحضر القيادة السياسية دون أن يكون الرابط في ذلك الموضوع نموذجا للقياس، بالإضافة يعيش خليفة مرحلة المصطلح وتفسيره في أكثر من موضع في النص فنجده يذكر" أن الثورة كمصطلح سياسي تعني الخروج ضد الوضع الراهن وتغييره. تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل عميق وشامل ينتج منه إعادة توزيع السلطة والثروة" ص 21. وفي موضع آخر من الرواية يذكر "الثورة هي تحرير النفس لكل الطاقات الكامنة في الإنسان بهدف التغيير. هي تفجير لقدراته وتعميق لمفهوم الحياة. وربما هي تهذيب لمقومات وسلوكيات سائدة يراها مسبّبا في الثورة خاطئة" ص 202 . وفي تحصيل نهائي يرجعنا الكاتب لخلاصة مفهوم الثورة وهي " الثورة عملية معقدة، قد نلمس نتائجها فوراً أو بعد عشرات السنين. الثورة تخلق سبلاً جديدة للتفكير وتحقيق الأهداف. فهم آخر للثورة هو أنها شاملة، أي أنها لا تقتصر على التغيير في الجانب السياسي فقط، بل تمتد إلى المجتمع والثقافة وحتى الجسد. قد تكون الثورة إنسانية أيضاً تدخل في أسس العلاقات والمشاعر" ص 254. و" ثمن الثورة قد يكون باهظاً أحياناً" ص 257م جميع هذه التفسيرات المقدمة هي محاولة للوصول لقناعة يرتكز عليها القارئ والمتلقي على أن الكاتب كان واضحاً في تناول المصطلح والذي شاركه العنوان الروائي فيه فالمتلازمة بين ما هو مفهوم بداية أصبح عند خليفة سليمان يحتاج إلى توضيحٍ لأبعاده من جميع الجوانب.
وشكل دخول خليفة سليمان لعالم الرواية وبنائها السردي لا ليكون فقط شاهداً على عصره، بل ليساهم في إنارة الوعي المجتمعي ومحاولة تخليصه مما علق فيه من عتمات أو أمراض ترسخت خلال عقود، ومحاولة كتابة رواية عمانية ناجحة وتصل للقارئ العربي لأنها تخاطبه زمانيا ومكانيا وحدثا معاش، وغايته تحريضه على التفكير، عبر قراءة متأنية للواقع ورسم مشهد، ليس ثورياً فقط إنما إنساني الأبعاد بامتياز، فالشخوص والزمن كانا حاضرين للقرينة والدلالة والقياس واللعب السردي والحواري لمختلف الأبعاد في الشخصيات والصورة من خلال جمع التفاصيل من وسائل التواصل الحديثة التي تجرها الخيول السريعة، وهنا الخيل رمز للطاقة الإيجابية والقيادة التي يمتلكها الشباب ويعيش تفاصيلها الجيل الحالي الذي ولد على التقنية وتربى عليها وأصبحت جزءا لا يتجزأ من وسيلة النقل التي يركبها لتوصيل فكره وطموحه وأحلامه، فنجد الشخصية في الرواية بمجرد ما تصحو من النوم تتابع تفاصيل مختلف الوسائل وتتابع يومها وتغير مكانها ولكن وسائل التواصل تهجم عليها وتتسارع الأحداث فيها وتتأزم ويكون الفاعل الرئيس وسائل التواصل.
بحق وسائل الاتصال في هذه الرواية هي لجام تنقاد وراء الخيل (الراوي العليم) إذ يوجهها ويختار تفاصيل ذكرها وتنوعها بين كل لقطة وصورة، فنجد الراوي يقول: "لا يزال يبحر في عالمه الافتراضي. يسأم متابعة الأخبار مفصلة. الأخبار السريعة تفي بالغرض بعيداً عن التحليلات والحوارات الطويلة للصحف والقنوات الفضائية التي لا طائل منها. جولة سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي تعطي خالد موجزاً بآخر أخبار الساعة. وبين التغريدات" ص 194، وتتنوع وسائل التواصل وتتسارع في حجم ما تنقله من أخبار في مختلف مراحل تطور الحدث السردي.
رواية (ثورة بورا) لا تقوم على النمط الدرامي للحكاية وإن كانت الشخوص واقعية والمكان والأحداث أيضا، ولكن التخيل الذي يضيفه خليفة سليمان لشخصين غادرا عمان هما: خالد وصديقه سالم، لينهضا بدور محركي الأحداث وحركة الزمن الذي يسير خطّياً ويلتف حول الأحداث في شكل دائري أحياناً بفعل ظهور شخصيات جديدة تشاركهم تفاصيل الحديث عن الثورة وهي شخصيات بعضها ظهورها بوليسي إذ تنقاد للاكتشاف عن الأحداث الجارية في الميدان وفي وسائل الإعلام وتشارك فكر الشخصيتين النقاشات من خلال هذا الثنائي (خالد/ سالم)، وهذا ما منح الرواية مجالا لفتح نوافذ وطرق على كل أماكن الحراك الشعبي وبمشاركة واسعه من المحللين لدرجة ظهر تعليق بأن "سائقي سيارات الأجرة هم أيضا محللو سياسة. ومن يعملون في الخدمات الفندقية يعبرون عن مواقفهم السياسية بكل جرأة. حديث الشارع كان مكملاً لحديث وسائل الإعلام المختلفة" ص199. لقد عرض خليفة سليمان من خلال السرد نبض المجتمع المصري بكل شرائحه ومواقفه، حتى الذين يتواجدون في أماكن مشبوهة "كازينوا بورا بورا" كان لهم رأي قدمه بعيداً من خطاب الثورة أو الثورة المضادة. وفيما يبدو السرد مفتوحا على لسان الشخصيات وقناعتها إلا أن في بعض المواقف يغلب الجانب النقدي في البنية السردية "ربما اختلف الوضع أخيراً كما يروي التاريخ. وجود الثورة التقنية مكّن المرأة من التعبير بحرية أكبر، وأصبحت المرأة على قدم المساواة مع الرجل. البعض منهن عبر تحت أسماء مستعارة للهروب من الواجهة" ص250.
خاتمة هذا النص الزاخر هي نهاية لرحلة الثنائي العماني وقرارهما بمحض ارادتهما انتهاء رحلتهما مع أن الجميع لم يكن يرغب في عودتهما " صمت الجميع عن الحديث. رفع الأسطى صبحي صوت المذياع. كان هذه المرة بعيداً عن السياسة. (خليك هنا خليك. وبلاش تفارئ .. بتأول يومين وتغيب سنه .. بلاش تفارئ). كان صوت وردة الجزائرية فخماً وهو يتردد في المذياع. يستمع خالد إلى الأغنية بشجن. فتح هاتفه وقرأ رسائل لوسي التي تمتلئ بمشاعر الوداع" ص252.

د. سعيد بن محمد السيابي
باحث أكاديمي في جامعة السلطان قابوس
نائب رئيس النادي الثقافي