ـ دراسة في شعر سعيد الصقلاوي ـ

ثلاث بادئات يمكن أن تكون إحداها مدخلا ، بل تصلح أن تكون إحداها محتوى لهذه الكلمة " المتسرعة " عن فن الشاعر المهندس سعيد الصقلاوي الشعري ومذاقه المتميز بالمزج المتوازن بين ثلاثة محاور يسهل الاهتداء إليها إذا توفر شرط الأناة وصفاء التلقي لمنجزه الشعري . أما هذه المحاور الثلاثة المتوازنة فهي : قدرته على تمثل تراث أمته العربية في مجال الغزل وفلسفة الحسّ التكاملي بين المرأة والرجل ؛ ما بين العذرية والحسية ، وحرصه على الانتساب لوطنه العماني ( الخليجي ) وأمته العربية بإشهار الخصائص الوجدانية والملامح المكانية ، وأزمات السياق التاريخي ، والأمل في الآتي على السواء . ثم يأتي المحور الثالث وهو ماثل في استيعاب هذا الشاعر طبائع عصره الثقافي الراهن وخصائص أساليب شعره في جوانبها الصحية ، دون أن يفقد اتجاهه بأن ينغمر بين أمواج الحداثة المستجلبة ، بما يجعله واحدا من " أسنان المشط الحداثي "،لأيهم قرأت شعره استغنيت به عن الآخرين !!
أما البادئات الثلاث التي أشرت إليها ، فأولاها ضرورة استحضار المبدأ النقدي ( الحق ) الذي يؤمن بأن القصيدة ( التي تستحق هذه التسمية ) تحتفظ بصدارة القول النقدي، وتتفوق عليه مهما تعددت محاولات واجتهادات النقاد في تفسيرها أو تأويلها . وهذا الموقف الجمالي نقيض ما يزعمه نقاد الحداثة من أن النقد يعدّ غاية في ذاته، وأن الناقد مجتهد – ليس في التفسير أو التأويل، وإنما في الإغراب والتفلسف حتى تصبح مقالته وقد احتلت مكان القصيدة ذاتها في فكر المتلقي ! استكمالا لهذا المبدأ فإننا لا نطلب من الشاعر أن تكون ( جميع ) قصائده على هذا المستوى ، يكفي أن يبلغه في بعض نتاجه، وقد أشار القاضي الجرجاني – منذ ألف عام – في كتابه " الوساطة " إلى مبدأ " المقاصّة " التي نعرفها الآن في البنوك والمعاملات المالية، ونسكت عنها في الشعر !! وهنا أقول مطمئنا: إن ديوان " نشيد الماء " وحده يدل على شاعر له تخومه المميزة، وإبداعه المتفرد ، ومذاقه الذي سبقت الإشارة إليه من حيث هي خصائص تستحق أن نتأملها ، وأن نكشف عن جذورها في ثقافة سعيد الصقلاوي ، وتجلياتها .
أما المدخل الثاني الذي يصلح أن يكون بادئة لهذه الكلمة ، فهو الإشارة إلى أطروحة الماجستير التي أعدها الباحث محمد عبد الرحمن ، كان حينها – 2007م – معيدا بجامعة القاهرة ، وهو الآن دكتور مدرس بكلية دار العلوم – جامعة الفيوم ، وكان عنوان الأطروحة : " بنية القصيدة عند سعيد الصقلاوي " : ( اللغة – الصورة – الإيقاع ) . لقد حصل الباحث على درجة " ممتاز " عن بحثه ، وقد جمع في منهج أطروحته بين الوصف والتحليل المعتمدين على الإحصاء . أما صلتي بالأطروحة فلأنني كنت مقترح عنوانها ، المشرف على إجرائها ، وهذا ما يمنحني الحق في الحديث عنها ، على الرغم من أنها لا تزال مخطوطة ؛ لم تنشر بعد !!
لقد رتبت أطروحة الدكتور محمد عبد الرحمن الدواوين الأربعة للصقلاوي بدءًا من أولها: " ترنيمة الأمل " 1975 ، ومن بعده : " أنتِ لي قدر " 1985 ، ثم : " أجنحة النهار " 1999 ، ثم : " نشيد الماء " 2004 ، ولم يكن الديوان الذي بين يديك متاحا بالطبع، ويدل هذا الكشف على أننا أمام شاعر يمارس إبداعه منذ أربعين عاما، وأن المسافات الزمنية بين الديوان والذي يليه تجنبه مظنة الاحتراف، وتصيد المناسبات ، والنسج على منوال سابقيه .. من وجه آخر : إن هذا الشعر يعبّر عن صاحبه ، عن ذاته الشخصية ، وعن تأملاته ، وعن تفاعله مع مستجدات الأحداث في وطنه ، وعلى اتساع أمته .
هناك – فيما كتب محمد عبد الرحمن – إشارات طريفة تستحق التوقف عندها ( ولا تدخل في دراسته النقدية التي لا تتسع لها هذه الكلمة بالطبع ) ، فقد ذكر ( ص12 من المخطوطة ) ثلاثة أبيات وصفها بأنها أول ما كتب سعيد الصقلاوي من الشعر ، وهذا نصها :

اقتطــف زهـر الحياة
وانظر الروض الجميلْ
واستمــع تغــريـدةً
يشدو بها نادي الأصيلْ
واله بين الروض وانظر
غاية الدرب الطــويلْ

حين قرأت هذه الأبيات البسيطة في تركيبها، القريبة في معناها وصورها ، استعادت ذاكرتي أول أبيات قالها حافظ إبراهيم ، وأول أبيات قالها أحمد شوقي، مقارنة بأول أبيات قالها سعيد الصقلاوي ، فأسفرت المحاولة – على بداهتها – عن أن هذه البدايات المبكرة جدا ، التي جرى بها الخاطر الحر غير المحكوم بأية تطلعات تتجاوز التعبير عن شعور لحظي تصادف أن جاء منغما. كان ما قاله حافظ مثبتاً على قصاصة ورق تركها ليقرأها خاله ، وقد كان حافظ يعيش في رعايته ، بمدينة طنطا ، وكان حافظ شابا أو مراهقا ( تالفا ) تطلع إلى أن يعمل في مكتب محاماة ، ولكنه لم يفلح ( حتى مع تكرار المحاولة ) فهجر بيت خاله ، وهجر مدينة طنطا ، وقصد القاهرة ليدخل المدرسة العسكرية التي تضمن لطلابها المأوى والطعام ، ثم الوظيفة ، أما تلك القصاصة التي تركها لخاله فقد خاطبه فيها قائلا :
ثقلت عليك مؤونتي
إنّي أراها واهيـهْ
فافرح فإنّي ذاهـب
متوجه في داهيهْ !!

ولا نخطئ التلقي إذا قلنا إن هذين البيتين يحملان من صفات الشخصية أهم ما سنعرفه عنها في حياتها وأشعارها ، وعلى رأس هذه الصفات الشكوى ، والكسل ، وروح التهكم والسخرية !! أما أحمد شوقي فقد دلت بدايته المبكرة على توجه آخر ومستوى مختلف في الوعي بما حوله ، إذ كتب بعد أن تأمل خارطة أوروبا وأفريقيا :

أفريقيا قسـم من الوجودِ
منظره كهيئــة العنقــودِ
وذلك العنقود في الماء انغمرْ
ما أملح الماء وما أحلى الثمرْ
مـــدت إليـه يدها أوروبا
من فــوقه كمن يريد الحبا

هكذا قرأ أمير الشعراء تضاريس أفريقيا ( المثلث شبيه العنقود ) ومن فوقه تمتد خارطة إيطاليا التي تشبه بساق امرأة تلبس حذاء عالى الكعب ، فجعلها يدا تترقب الغفلة لتحتل أفريقيا !! وإذا كنا نصرف النظر عن المقارنة بين صنيع حافظ وصنيع شوقي إذ لكل منهما تجربته وتكوينه الثقافي وعلاقته بنفسه أو أحداث عصره ، فإننا لا ننكر أن هذه الأبيات المبكرة كانت بمثابة " البذرة " التي ستتحول مع الزمن إلى شجرة ، ولكل شجرة شكل وثمر ومذاق !!
في ضوء هذه الطرفة التاريخية كيف يمكن أن نقرأ أبيات سعيد الصقلاوي المبكرة دون أن نبالغ في حالة التفرس ( من الفراسة ) بفرضها على منتجه الشعري فيما بعد ؟
أرجح أن الأمر واضح تماما ، في إطار ما تعنيه هذه القطعة بذاتها : ففيها إغراء بالاتجاه إلى الطبيعة ، وتأمل ما فيها من جمال ، ودعوة إلى ملاحظة التكامل في المشهد بإعمال الحواس وشحذ الإدراك ، والربط بين مكونات الصورة ليكتمل الجمال بإشباع الرؤية والسمع والشم والتمتع بالألوان ، وهذا توجه رومانسي أصيل ، لا يخلو من نَفسٍ وجودي !!.. وإن البيت الأخير ليضيف معنى فلسفيا عميق الغور وإن بدا فطريا ساذجا ؛ فلن يطيب هذا المشهد البديع إلاّ بحالة نفسية عبر عنها باللهو ( وتساوي راحة البال واستراحة الضمير )، على أنه يحول بين متلقي شعره وبين العبث أو إهمال الغاية ، فبعد الاستمتاع بالمشهد وإشباع كل الحواس بالمتاح من صور الجمال ، لابد من النظر ( وهو في هذا السياق بمعنى التأمل والتفكر) في غاية الدرب الطويل، بما يعني أن هذا الجمال المشهدي لم يخلق عبثا، وإنما للاستمتاع به وصقل النفس بتأمله، ثم لنتخذه سبيلا إلى التفكر في غايات الحياة ( الدرب الطويل ) ، تأمل حركة الزمن وما تؤول إليه هذه المشاهد الأخاذة الفاتنة بعد سنوات تطول أو تقصر، وقياس مآل الرائي نفسه بما يجعل الوعي بالغايات أمراً ملازما لدى العقلاء، حين يستمتعون بمشاهد الجمال والبهجة، ولكنها لا تصل بهم إلى حد الغفلة عن قضية المصير للفرد، وللجماعة، ولمشاهد الطبيعة ذاتها !! للحياة في جملتها !!
من المؤكد أنني – مقدم هذا التحليل النقدي الفلسفي – لست مسؤولا عن دقة هذه القراءة أو استيعابها لكل ما فاضت به الأبيات من التفسير والتأويل ، بل إن الشاعر نفسه ( سعيد الصقلاوي ) ليس مسؤولا عما تعنيه أبياته إلاّ بقدر ما تكون الزهرة مسؤولة عن بديع ألوانها وروعة أريجها. وتبقى إضافتان عالقتان بهذا السياق نشير إليهما بشيء من تحريض القارئ أو الدارس لشعر هذا الشاعر بالتوسع في بحثهما متجاوزا الأبيات الثلاثة المشار إليها ، إلى جملة شعره في سائر دواوينه : الإضافة الأولى إطلالة على محتوى الدواوين من زاوية ما عناه العقاد في دراسته النقدية الشهيرة في كتاب : " ابن الرومي : حياته من شعره " ، والإضافة الثانية تختص بما ألمحنا إليه من أن هذه الأبيات المبكرة تحمل دعوة إلى الاستمتاع بمباهج الحياة ، كما تحمل دعوة إلى التفكر في الوجود وغايات ( الجمال ) في هذه الحياة !!
ويبقى المدخل الثالث المفترض لهذه الكلمة الموجزة، وهو يتعلق بآفاق الدراسة الأدبية عن شاعر نعرفه، ونعايشه، ولنا معه علاقة ودّ وصداقة لم تبهت على تباعد المواقع ومسافات الزمن واختلاف الشواغل !! في هذه المسألة ( المنهجية ) فإنني أفرق، وادفع طلابي في الدراسات العليا ، إلى أن يفرقوا بين مطلب إجراء بحث عن شاعر مضى زمانه وانقطعت سبل التواصل معه إلاّ من خلال أشعاره وشهادات أهل زمانه ومن جاءوا بعده ، مثل المتنبي ، أو البهاء زهير ، أو البارودي ، أو محمد محمود الزبيري ، أو عبدالله بن علي الخليلي .. أو من شئت من الشعراء الراحلين على اختلاف زمن الرحيل ، وليس لدينا عنهم غير أشعارهم ، وأقوال الآخرين من معاصريهم ومن سبقونا إلى قراءتهم في أزمان مختلفة . العلاقة هنا " وثائقية " شاهدها الأوحد " الأوراق " !! ويختلف الحال ، وينبغي أن يختلف حين نعرض لإبداع شاعر نعاصره ، وأكثر من هذا : نعرفه عن كثب ونحمل له تقديرا خاصا . فإذا كان " المنهج " – والحالة كذلك – لابد أن يتجاوز الوثائق ( الأشعار وما كتب السابقون عن الشاعر وشعره ) إلى المعرفة بالشاعر نفسه ، سماعه ، ومناقشته ، وعرض أقوال الآخرين عنه .. إلخ . وهنا نصل إلى مفارقة يمكن أن توصف بأنها منهجية كذلك ، وقد نبه سابقونا إلى هذه المفارقة بعبارة مشهورة بين الدارسين خاصة : " المعاصرة حجاب " وأستأذن في أن أتشكك في قيمة أو درجة صدق تلك المقولة ، وإذا كانت المعاصرة حجاب ، فقد انضاف إليها حجب أخرى مثل الدعاية ، والانتشار الإعلامي، والذوق المتغير ، والأيديولوجية السائدة .. وغير هذا من بقع الضباب التي يمكن أن تحجب مساحة من صفاء المرآة وصدقها فيما تعكسه !!
هذه بعض الجوانب التي تحول بيني وبين التوسع في الكتابة عن شعر سعيد الصقلاوي من مدخل تلمس حياته في أثناء شعره ، فهو مهندس ، وبين علم الهندسة ، وهندسة القصيدة صلة لا تنكر ، بل إن تخطيط المدن والأقاليم – وهو التخصص الدقيق لشاعرنا – حافز قوي لرصد أصداء هذا التخصص في بنية القصيدة ، ولعل هذا الانعكاس التبادلي بين الهندسة والقصيدة يغري بقراءة ديوانه الأخير ( الذي بين يديك ) وقد يكون هذا حافزا إضافيا لإعادة قراءة دواوينه الأربعة السابقة ، إن لم يكن من منظور رؤيته الشعرية وتنوع تجاربه ، وتجريبه في تنويع الإيقاع ( البحور ، وموسيقى الحشو ) فمن هذا المنظور الذي نعرض له عن العلاقة بين تخصصه العلمي وتشكيله للقصيدة . ولقد سبقه الشاعر " علي محمود طه " الذي كان حريصا على إلحاق صفة " المهندس " باسمه، ولكن منظور الربط بين الهندسة (أو هندسة التخطيط بالنسبة للصقلاوي خاصة ) والقصيدة ، لم يهتم ناقد بتعقبه ، إلاّ في عبارات محدودة أشارت إليها دراسة الشاعرة نازك الملائكة فيما كتبت عن علي محمود طه تحت عنوان :"الصومعة والشرفة الحمراء"، فهل أتمنى على الباحثين في الأدب والنقد من الشباب أن يجري دراسة موازنة بين الشاعرين : العماني والمصري في إطار العلاقة بين التخصص العلمي والتشكيل الفني للقصيدة !!
لعلك تدرك الآن أنني لم استطع حل " معضلة " البدء ، وهل يكون بالشاعر أم بشعره ؟ وهل تبدأ الدراسة بما تعرف عنه أو بما قرأت له ؟ من ثم توقفت عند " الاجتهاد " المنهجي ، وتركت لكل باحث أن يعمل فيها بنوازعه وما يرى في نفسه استجابة له .
يعكس شعر سعيد الصقلاوي طبائع نفس صافية ، تتمتع بتوازن فريد يتجلى في خلع الصفات على الشخصيات التي رغب في تصويرها شعرا ، سواء كانت هذه الشخصيات مناضلة ، أو عاشقة ، أو منحرفة تغري بالهجاء ( على قلته )! . وفي قصائده العشقية يستعيد الحب عرشه في قصيدة " ترنيم الغياب " ( ديوان : أجنحة النهار : ص93 ) وقصيدة : " حبك موسم النعمى " ( من الديوان نفسه – ص35 ) وفي هذا الديوان الثالث ( أجنحة النهار ) تحرر الصقلاوي تماما من رذاذ أشعار نزار قباني في المرأة التي أصابت بعض قصائده من ديوان " أنت لي قدر " ، على سبيل المثال قصيدة : " خذيها واغربي عني " ( الديوان – ص35 ) فهذه النزعة الجافية للمرأة غريبة على نفس الصقلاوي وشعره . وغريبة على تصوره العذري ، وحتى الحسّي بعلاقة الحب ، وقد اشرنا قبل إلى تمثله لتراث العشق العربي في تنوعه ، وليس من أنواعه هجاء الأنوثة ، ويوم قال جرير : ... وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام !! لامته السيدة سكينة على جفائه وقالت له : هلاّ أخذت بيدها وأدنيت مجلسها ورحبت بها ؟! وكان السياق عن " الطيف " وليس عن المرأة بذاتها . أما نزار فلا يهمه غير الشهرة والصدمة، وقد بنى أهراما من الحلمات ، فلا يعنيه أن يكون عاشقا حقيقيا بقدر ما يعنيه أن يكون مغربا متحكما كسلاطين المماليك في زمانهم . وفي هذا الديوان : " أنت لي قدر " نجد العاشق ماثلا في ضراعته :
لا تحسبي أن الصدود يحيلني
صدى ، إلى ما شئتُ لن أنساك
وندائه لها : يا عمر عمري !!
واعترافه : أحبه مليون مرة بلا تردد .
واعترافه الأخر : أتمنى أسمع صوتك آلاف المرات .
أما في ديوان " أجنحة النهار " فقد تنافس العشق والتأمل ، حتى يقول على لسان ابن عمان:
- ومرساتي هي التاريخ والعبر .
ومن آيات هذا الديوان البينات ، يقول عن حبيبته ، وقد استدعى صورتها وهو على الشاطئ :

إذا سمعت هدير الموج أبصرها
وإن نظرت إليه اسمع الحقبا !!

لك أن تتأمل هذا التراسل الذي تحدث عنه شعراء الرمزية ؛ إذا سمعت .. أبصرها، وإن نظرت .. أسمع الزمن !!
ومن حقك ، بل من واجبك وأنت تقرأ هذا البيت – وله أشباه – أن تطيل التأمل في هذه الدقة المرهفة ، التي لا تأبى أن تجمع بين الشعرية والعلمية في المشهد الواحد ، الماثل في سماع هدير الموج وكيف أنه – لعلاقة سابقة – يستدعي صورتها فيبصرها بعين الخيال ، ولكنه إذا ما نظر إلى هذا الموج المحتدم تغيب صورة الحبيبة ( وقد دله حسه الشعري على أن صورة الموج الملتطم لا يمكن أن تستحضر صورة الحبيبة ، فهنا تتحقق نقلة نادرة ، لم تسنح لشاعر من قبل ، بأن يتنقل بخياله من المسموع إلى المرئي ، ثم من المرئي إلى المدرك الذهني ( اسمع الحقبا ) في نفس المشهد !! هل يفتح لنا هذا البيت الفريد طريقا إلى إضاءة شديدة الإيجاز عن تقنيات الحداثة التي أخذ بها أو بأطراف منها ؟ وهنا نرسي مبدأين : الأول أن شعر سعيد الصقلاوي يتسم – عامة – بالوضوح ؛ وضوح المعنى ، والصور المجازية ، وحتى : الصور المرسومة بالكلمات ، والعلاقات البنائية سواء في الجمل أو في سياق التموجات الانفعالية في القصيدة ، ونعرف أن " الحداثة " تؤثر الغموض بحيث تحيل المتلقي إلى مفسر أو مؤول أو باحث عن احتمالات الدلالة ، ومع هذا فليست الحداثة " ميدالية مفاتيح " يجب أن تقبض عليها بجماع أصابعك حتى لا تفقد القدرة على ولوج أبوابها !! ولعلنا ننظر إلى هذا الأمر في إطار " النسبية " والقدرة على التلقي . المبدأ الثاني – وهو لا يتاح إلا لمن يقرأ شعر الصقلاوي في تتابع مستمر موصول ، وخلاصته : أنه إذا كان الديوان الرابع " نشيد الماء " قد استأثر بتجسيد النسبة الواضحة من تقنيات الحداثة فإن الدواوين قبله قد أجنت تقنيات أخرى كامنة ، تفتحت فيما بعد . ففي " أجنحة النهار " توهج البيت الذي استوقفنا بين سماع هدير الموج والنظر إليه . وفي " أجنحة النهار " أيضا نجد " القصيدة القناع " على لسان طفل فلسطيني يعبر عن معاناة بضمير الأنا ، وفي " نشيد الماء " يجنح عديد من الصور نحو الكثافة التي تؤدي إلى الغموض فتأتي الاستعارات حاملة ثمرات الإضمار الخفية أو المستخفية المثيرة للتأمل وإعادة تكييف المعنى ؛ فحين يقول عن زمن الضياع العربي :

تساقط لحم الكرامة بخسا
وأضحى رصيف العذاب مقاما

فإنك لابد أن تفكر في ما يعنيه تساقط اللحم ، متى يكون ، وكيف ، لتنتقل بعد ذلك إلى " لحم الكرامة " وغرابة هذه الاستعارة قدر ما ستفكر في معنى الحياة ( الإقامة ) على الأرصفة ، وهل رصيف العذاب هذا مكان إقامة أم مكان انتظار يمكن أن يحتمل ؟!
أما قصيدته عن عبد الرحمن الداخل ، ثم عن غرناطة ، ثم عن الخضراء( تونس) فإنها يمكن أن تدرس كقصيدة واحدة ثلاثية الأبعاد ، تكتمل بقصيدة " كنت المرجّى " وكأنما هي قفل موشحة أندلسية بدأت بالداخل وختمت بالكشف عن جذور الهزائم ماثلة في الهروب والتنكر !!
وأخيرا : قد تخدعنا مكونات الجملة بما نظنه غاية المعنى ، ولكن المفردة حين تتواشج في بناء قد تكشف عن غايات بعيدة . ننظر – على سبيل المثال – إلى مفردات : اللحم ، والدم ، والقلب ، والزند ، والعين – في قصيدة : " كنت المرجى " ، وينبغي أن نتوقف عند ذكر " النخل " في قصيدة عبد الرحمن الداخل ، وله ثلاثة أبيات عن النخلة حين شاهد واحدة – مغتربة مثله – في بلاد الأندلس . وقد يغيب المعنى تماما عند القارئ حين يقرأ هذا التعبير : ( نبض الحصى ) دون أن يدرك المعنى المعجمي للحصى ، وهو العقل!! ولعل بعض الصور تحتاج إلى جهد في الكشف عن أسرار بنائها ، مثل قوله عن حبيبته / عُمان :لأنك دفقة الأنهار فوق مراشف الصبح !!

ولعلنا نفكر ونطيل التفكير في التوافق والتناقض بين الدفق والأنهار ، والتوافق والتناقض بين المراشف والصبح ، ثم بين هاتين الصورتين وما بينهما من توافق وتناقص : دفقة الأنهار : مراشف الصبح !!
تبقى إشارة ضرورية عن استخدام الشاعر لبحور الخليل في صورتها التامة أو المجزوءة ، وكيف التزم بشرط ما بدأت به حركة التجديد العروضي على يد السياب ونازك وصلاح عبد الصبور ، بحيث تستخدم تفاعيل البحور الصافية ( وحدة التفعيلة ) ولعل هذا يفسر لنا لماذا كان القالب الأثير لقصائده الخليلية أو التفعيلية على السواء هو بحر الرجز ، أو تفعيلة " مستفعلن " ، ولهذا التفضيل سبب آخر ، هو إضفاء الإيقاع الشعبي الذي يناسب قصائد شاعر كان دائما قريبا من الناس ، يروقه أن يشاركهم في معاناتهم ، وأن يخوض معهم بحر الحياة الزاخر بالأسرار .

د.محمد حسن عبدالله
أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية دار العلوم جامعة الفيوم