[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
مقدمة:
كان التلفزيون المصري يعلن أن الرئيس جمال عبد الناصر سيتحدث الى الشعب مساء .. ترى ماذا سيقول، كان لسان حال الناس والعرب والعالم .. لم يكن قد توضح للعرب أن ثمة هزيمة عميقة قد وقعت وأن الجيش الاسرائيلي وصل الى الضفة الشرقية لقناة السويس بأسرع ماهو متوقع .. ولم يكن أحد يعلم ان التاسع من يونيو سيكون يوما فاصلا في التاريخ المصري لأن الرئيس سيحدد موقفا صارما على ما يبدو.
ـــــــــ
كانت الرئاسة المصرية مشغولة بالكلمة التي سيلقيها عبد الناصر، فالكلمة التي كتبها محمد حسنين هيكل نص اعتراف بالهزيمة، ثم تحوي مفاجأة من العيار الثقيل الذي لن يقبل من قبل الناس الذين تجمهروا حول شاشات التلفاز، يدهم على قلوبهم وأنفاسهم تتقطع، وكل منهم يحسب كل شيء إلا ما سيعلنه الرئيس، فقد كان غائبا تماما عن الأذهان.
كنت أسرع الخطى أنا ومجموعة من الأصدقاء الى المنزل لسماع الخطاب، كانت بيروت صامتة هي الأخرى، تنتظر ماسيقوله عبدالناصر بعد حين. وحين بدأ خطابه كان واضحا ان التعب استهلكه، واننا لم نعتد على قراءته لأي نص بهذه البساطة والتأني والتروي .. ومع انه لم يكن مستعجلا، كان كلامه يحفر في العقول كالأزميل. ووصلنا الى الفقرة المفاجأة حين أعلن عن تقديم استقالته ..
خرجت مصر كلها عن بكرة ابيها وهي تصرخ " ماتسيبناش"، فقد كانت عنوانا لفوضى التعبير ومعناها اننا الآن بحاجة اليك فكيف تتركنا لوحدنا .. ملايين المصريين ملأت الشوارع في ذلك اليوم الحزين, استقالة عبد الناصر وما كشفه انها هزيمة كبرى وقعت فيها مصر ايضا. ضربتان كبيرتان على الرأس لم يهضمهما الشعب المصري ولا الشعوب العربية التي خرجت هي الأخرى صارخة مطالبة بعودته عن استقالته.
لاشك ان استقالة عبد الناصر كشفت عن عمق الهزيمة، فما جرى خلال الأيام بين الخامس من يونيو والتاسع منه عام 1967 ان اسرائيل حققت نصرا كبيرا على الجبهة المصرية اتبعتها بالجولان السوري ثم بالضفة الغربية التي كانت تديرها الأردن. هزيمة كبرى لم يكن قد ظهرت حتى اللحظة آثارها العميقة ولم يتسن لأحد بعد أن يتعرف على تفاصيل ماجرى، رغم أن السيناريوهات التي حدثت ملأت الصحف والتلفزيونات، وظهر أن الاسرائيلي كان مجدا في حربه وهو الذي اخترعها ووضع لها المخارج والمداخل وأن العرب وقعوا فيها، اضافة الى التفاصيل الميدانية وكيف جاءت الطائرات الاسرائيلية من الشرق ومن الغرب لتدمر الطائرات المصرية وكذلك المطارات، ثم لتفتك بعدها حين خسرت القوات المصرية في صحراء سيناء غطاءها الجوي بالدبابات والمدرعات وتلاحق الجنود الفارين في الصحراء .. كانت مهزلة، بل كارثة.
لعلنا حين نعود اليها بعد كل تلك السنين من باب قراءة محطة تاريخية من محطات الصراع في المنطقة، ثم كيف توقع العالم كما توقعت اسرائيل ان يأتي عبد الناصر صاغرا ليوقع صك الاستسلام فإذا به يطل بعد اقل من سنة من الخرطوم في السودان ليعلن لاءات مصر التي صارت لاءات العرب، لا صلح لا اعتراف ولا تفاوض مع اسرائيل.
لم تبق تفاصيل هزيمة يونيو 1967 طي الكتمان او سرا من اسرار التاريخ، فلقد كشف عنها الكثير كما ان الصحافي محمد حسنين هيكل قدم لها كل وثائقها المهمة .. واليوم ونحن على بعد سنين منها، ترانا نعود اليها، كأنها وقعت البارحة، لكنها مازالت فعلا مدويا في الحياة العربية، وما زال تأثيرها قائما الى اليوم، وهي الحرب التي ولدت انقلابا فلسطينيا ادى الى نشوء ثورة مسلحة اعتمدت الكفاح المسلح طريقا للتحرير .. وهي على انقاضها قامت حرب اخرى في اكتوبر من العام 1973 لكنها بكل اسف ادت الى ضياع النصر عندما وقع الرئيس انور السادات اتفاقا مع اسرائيل سمي كامب ديفيد ادى الى اخراج من مصر من امتها العربية وما زال تأثير تلك الاتفاقية قائما ومحددا دور مصر العربي والاقليمي.
اذن لم تكن استقالة الرئيس جمال عبد الناصر سوى صفحة مهمة من صفحات ذاك التاريخ يؤشر اليها دائما على انها صفحة سوداء في تاريخ زعامة كبرى صنعت حراكا قويا في منطقة كان كل مافيها خامدا رغم ما آلت اليه النكبة الفلسطينية التي عجلت بقيام ردات فعل عربية وخصوصا في سوريا من انقلابات باتت معروفة.
لكن عبد الناصر لم يختر الطريق الأسهل للتعبير عن فاجعة حصلت في بلاده، الا لأن نار الهزيمة كانت قد لفحت تجربة كبرى اقامها في عهده وتعيش مصر اليوم في ظل نتائجها البارزة وهي المعالم التي تصدح بافعال زعيم قرر ان يجعل من بلده نموذجا لدولة فقيرة من العالم الثالث ارادت الاستقلال الذاتي والخلاص من التبعية اضافة الى موهبته المفتوحة على تجسيد مفهوم العروبة والقومية العربية والأمل العربي بالوحدة والأمة الواحدة ثم التطبيق الاشتراكي وغيره .. ممنوعات سلك طريقها، فكان عليه ان يدفع الثمن باهظا .. كل ماسلكه عبد الناصر كان من الممنوعات المفروضة على العرب: ممنوع عليهم الوحدة، والاستقلال الذاتي، والتحرر من التبعية، وممنوعة العبقريات الوطنية، وممنوع الاقتصاد الذاتي، كلها محددات درجت عليها المنطقة العربية، اراد عبد الناصر كسرها، وحقق اكثرها، لكن سكوتهم عليه لم يكن سوى اعطائه وقتا من الزمن كي تأتي الضربة القاضية فكانت الهزيمة المشار اليها.
ما واجهه عبد الناصر وقعت فيه سوريا العربية اليوم، كيف لها ان تحقق اكتفاء ذاتيا، وان تتبنى فعل المقاومة، وان ترفع شعارات عروبية، ان تظل القطر العربي الذي مازال قائما على نصوص حزب قومي عريق .. بلد مستقل تماما، كان له دوره الاقليمي في لبنان مثلا حين منع تقسيمه وحقق له امنا مازال ساري المفعول الى اليوم رغم خروج القوات السورية منذ عشر سنوات تقريبا.
من المؤسف القول ان النظرة الاستعمارية للوطن العربي لم تتغير، ظل هذا الاستعمار على تمسكه بالممنوعات، وقد زرع اسرائيل في قلب ذلك الوطن لهذه الغاية ايضا .. فمسموح مثلا اية وحدات ان تقام ماعدا الوحدة العربية، ومسموح اي استقلال ذاتي ماعدا استقلال العرب. ومن المؤسف ايضا ان بعض العرب ساهم في اللعبة الدولية، امدها بما تحتاجه من دعم مالي وسياسي واوجد لها نظاما سارت فيه الى اليوم وربما الى الغد، فلقد لعب بعض هذا العرب دورا اكثر قذارة من فعل الغرب واكثر تأثيرا على البنية العربية .. وهاهي سوريا اليوم مسرح لهذا اللعب العربي قبل ان نرى فيه صورة الغرب. وبكل حزن الانتماء، فان هذا البعض ايضا كان له شأنه في هزيمة اشقائه العرب حين قام بتويل الحرب الاسرائيلية عليهم.
فعل التأوه لايكفي، فمثلما اسقط صدام حسين لأن هذا البعض العربي قدم للاميركي طريق الخلاص من الرئيس العراقي لأسباب تكاد تتوافق مع بعض الممنوعات التي تجرأ ونفذها عبد الناصر، فإن الضربة التي تلقتها ليبيا شبيهة بهذا المفهوم ايضا حين تم تصفية معمر القذافي. ولولا مناعة الواقع السوري وقوة الجيش العربي السوري وصمود الشعب حول قيادته الحكيمة لكانت الأمور على ماوصلت اليه في العراق وليبيا .. ان سوريا تتعرض اليوم لأكبر محنة في تاريخها، وفي صمودها الاسطوري امام اكثر من ثمانين دولة ما يغني مشروعا ممانعا مقاوما مرتبطا بوجودها وببقائها حية قوية منيعة.
ومن ممنوعات العرب ايضا ما آلت اليه المقاومة الفلسطينية التي قدمت حراكا عربيا لم يكن معروفا في تاريخها .. وكادت ان تؤثر على العالم برمته حين تحرك الكثير من المنظمات الاوروبية والاميركية والاسيوية للتضامن وتقديم المؤازرة لهذه الثورة .. الا ان الصبر الصهيوني على التجربة الفلسطينية لم يطل حين تقرر شطب ذلك التاريخ الناصع، باتفاق شامل غربي مع اسرائيل وبهزة رأس موافقة عربية، وهكذا اجهز على تلك الثورة عام 1982 بعد حرب ضروس تعرض لها لبنان ايضا ودمرت بناه، فكان ان اخرجت الثورة الفلسطينية من احشائه لتغرب عنه نحو بلاد بعيدة اي الى مواتها ، ثم ليضرب لبنان ويعاقب لأنه احتضن تجربة رائدة.
/// التجربة الماثلة:
ومن الممنوعات التي مازالت تمارس كونها تملك القوة التي تعطيها الثبات في صراعها، هي المقاومة الاسلامية في لبنان التي باتت اساس المشروع الممانع والمقاوم، والتي ترى اليوم وهي تقاتل على جبهات متعددة، من اسرائيل الى سوريا الى العراق وربما الى اليمن .. لكن المهم انها صنعت توازن رعب مع الكيان الصهيوني الذي اصيب بالشلل وهو الذي لم يعتد على الصمت ازاء مايهدد مصير وجوده .. اذ لم تعرف اسرائيل حالة كهذه الحالة فرضت عليها ان تظل مكبلة اليدين، غير حرة في خيارات الحرب التي اعتادت على خوضها دائما. واغلب الظن ان الاسرائيلي ومن يقف وراء احتضانه، يلبسه التفكير بان ماوصلت اليه حال المقاومة الفلسطينية يجب ان يصله حزب الله، اي التصفية التامة، وهو أمر ينظر اليه الصهاينة الآن على انه متعثر وصعب بل مستحيل في ضوء السلاح الفتاك الذي يملكه حزب الله، وفي ضوء القدرات العسكرية الأخرى التي يعلن عنها، مضافا اليه تجربته القتالية في سوريا التي نال منها خبرات مهمة لابد ان يضعها في خدمة حربه المقبلة مع اسرائيل كما بات معروفا.
ومن الممنوعات ايضا وايضا، جيوش عربية فاعلة وقوية، وهذه جرى تصفية بعضها كما حدث للجيش العراقي، ثم الليبي، ويتم التركيز على السوري الذي خرج من مخاطرها الى دوره التاريخي في تحصين بلاده، ومن ثم الجيش المصري وهو على مانعتقد الهدف الذي يركز عليه الاسرائيلي .. اذ لايراد اطلاقا جيوش عربية قوية وقادرة، بقدر ما ان تكون قوى امن محلية بسلاح خفيف كما هو حال الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية. وهنا تجدر الاشارة الى ان الجيوش العربية المستهدفة هي: المصري والسوري والعراقي والليبي باعتبارها جيوش مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني، اما الباقي فيمكن التعامل معه او القبول بامكانياته المتواضعة، ومن المؤسف ايضا وايضا وايضا ان بعض السلاح لدى بعض العرب لايرعب اسرائيل رغم امكانياته لأنها تعرف تماما الى اين اهدافه في النهاية.
في الامس من يونيو اذن، حصلت اسرائيل على مالم تكن تتوقعه، حتى في كتابات قادتها اظهر هؤلاء ان ماحصلوا عليه كان اكبر من تخطيطهم، وهي صحراء سيناء والجولان السوري والضفة الغربية .. ومن اجل عيني اخراج مصر من المعادلة تم الانسحاب من سيناء بعد تكبيلها كما قلنا باتفاقية اذعان .. اما مسألة الجولان فما زالت عالقة الى اليوم ولعلها ستتحول الى كارثة على رأس اسرائيل كما كان يردد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وتراها المنطقة التي لايمكن لسوريا التخلي عنها تحت اي ظرف كان، واما الضفة الغربية فتلك لها واقع خاص حيث تم اختراقها بمستوطنات اسرائيلية كبيرة تجاوز عددهم الستمائة الف مستوطن، الأمر الذي جعلها غير صالحة لأن تكون صورة لدولة فلسطينية ممكنة في المستقبل. وما زال الأمر القيادي الذي تمارسه قيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنع حمل السلاح قائما، وليس مفهوما كيف يكون تحرير فلسطين وبأية طريقة اذا كان الاسرائيلي من خلال الموقف الفلسطيني هذا يستمتع بخططه التي تنفذ كلها على حساب الفلسطينيين ومستقبلهم الوطني الذي لم يعد واضحا وسيظل كذلك الى ان تعاد تجربة الكفاح المسلح التي مازال احد جهابذتها فاروق القدومي مؤمنا بانها الطريق الوحيد والأسلم لعودة فلسطين.
/// بتر الحلم الموعود:
الظاهرة التي كرستها هزيمة يونيو 1967 وهي المقاومة الفلسطينية صبر عليها الغرب وبعض العرب واسرائيل خمس عشرة سنة بالتمام والكمال .. ففي يونيو ايضا وتحديدا في التاريخ ذاته اي الخامس منه وفي العام 1982، شنت اسرائيل حربها الكبرى ضد المقاومة الفلسطينية فكان لبنان مسرحها .. ارادت اسرائيل ان توجه الرسالة المعنونة الى كل العرب بان جيوشهم تم تكسيرها وهاهي مقاومتهم الشعبية، فلم يعد امامهم سوى التسليم، لكن اللعبة الاساسية كانت احتلال لبنان حتى عاصمته بيروت لخوض تجربة جديدة بعملية اخضاع بلد امام منطقة باكملها، لكنها لم تستطع امام المقاومة المسلحة، فخرجت على مراحل حتى استقرت في مايسمى بحزام امني في وقت كان لها جيش من اللبنانيين سمته بجيش لبنان الجنوبي وهو ليس له علاقة لا بالجنوب ولا بالشمال ولا باي لبنان كان بل بالكيان الصهيوني وبخدمته وتمويله وخططه.
انتهى الحلم الفلسطيني الموعود، كان آخر الأمل في ذاك الوقت والمخلص الذي احتضن تجربة رغم كل مافيها فقد كانت الشرارة الاولى في امل عربي اوسع. لكن انطفاء التجربة، سرعان ما اشعل تجربة جديدة عبرت عنها في وقتها تنظيمات لبنانية مسلحة اخذت على عاتقها تحرير الجنوب اللبناني، وعلى ضفاف تلك التجربة كان هنالك مجموعة من الشباب المؤمن يعملون بصمت وبتضحية بالغة اطلقوا على انفسهم حزب الله. من الصعب على عدو متغطرس متكبر متجبر ان يعترف في بدايات تجربة مقاومة له انها ستثمر غضبا كبيرا وفعلا مؤثرا يؤدي الى هروبه مستقبلا وليس لمجرد انسحاب. فبعد ثماني عشرة سنة وجدت اسرائيل نفسها امام حائط صخري يستحيل كسره، فقررت الانسحاب في تاريخ كتبنا عنه وكان غاية في الاعتراف بعجزها امام مقاومة شعبية، كان لابد ان ترى فيها القيادة الفلسطينية ماهو النموذج الممكن لها ومع ذلك ادارت وجهها عنها حتى قيل انها لم تكن مسرورة بما حصل للمقاومة اللبنانية من نتائج لأن في ذلك فضيحة تكشف عجزها.
اقتلعت التجربة الثورية الفلسطينية، لكن الكيان الصهيوني اقتلع وجوده بنفسه امام تجربة جديدة مختلفة عنوانها المقاومة في لبنان .. اعترف المسؤول الصهيوني لتلك المرحلة انه كان امام عدو لايمكن مقاومته وان الجيش الاسرائيلي خسر على مدار الثمانية عشر عاما في جنوب لبنان مايقارب الألف جندي وهو رقم كبير لايمكن لاسرائيل ان تقبل به. اثبتت التجربة المقاومة في لبنان صحة الوسيلة التي اتبعتها وهي مقاومة الشعب التي عبر عنها اساتذتها الكبار من ماوتسي تونغ الى تشي غيفارا الى الجنرال جياب والزعيم هوشي منه، هؤلاء مارسوا الكفاح المسلح وعرفوا ان الشعب صانع الانتصار في النهاية اذا ماتم الاعتماد عليه ضمن قدرات الصبر على شتى المراحل التي ستكون صعبة الى حين تحقيق المصير.
/// كاسر الممنوعات:
الى الآن مازالت المقاومة اللبنانية كاسرة للممنوعات المفروضة على الأمة، وهو معنى الحيرة القصوى لدى الاسرائيلي الذي يصنع الخطة تلو الأخرى في محاولة لايجاد الطريق الذي يوصله الى انهاء التجربة اللبنانية الثورية، ورغم الحروب التي خاضها ضده وآخرها عام 2006 ، الا انه لم يستطع انهاءه، ولذلك فهو يستعد لما هو اعنف، خصوصا وان حزب الله يطرح اليوم خطة تدمير الكيان الصهيوني وفي الطليعة احتلال منطقة الجليل ويقولها علنا دون ان يخفي الكلام عنها.
وعلى الرغم من خلق توترات داخل لبنان من اجل انغماس حزب الله بها وبالتالي تغيير مساره، الا انه تم تجاوز المرحلة بالكثير من صبر المقاومين .. اما ادبيات المقاومة فتقول من خلال تجربتها الوثيقة ان الاسرائيلي بات عاجزا حتى الآن عن تحقيق غاياته، لذلك فهو لجأ الى دعم تنظيمات ارهابية تقاتل في سوريا ضد نظامها الوطني التقدمي، وعليها يعول ان تصل شرارتها الى لبنان لشن حروب عليها، ولهذا عمدت المقاومة الاسلامية الممثلة بحزب الله الى خير الدفاع الذي هو الهجوم حين ذهبت بنفسها الى سوريا لمواجهة هؤلاء .. فترى اسرائيل عاجزة عن تلقي الضربات من تلك المقاومة التي كلما حاصرتها بفكرة تخلصت منها. وليس عبثا ان نسمي المقاومة الاسلامية تلك كاسرة للممنوعات المفروضة على العرب.
تجدر الاشارة الى ان اسرائيل اقامت حتى الآن خمس عشرة تجربة ميدانية من اجل القول بجهوزيتها لأي حرب قد تقع عليها، وخصوصا جهوزيتها في الداخل اي على مستوى مستوطنيها. واهم ما انكسر ايضا، هو حالة الخوف والقلق والرعب من الجيش الاسرائيلي الذي كان الجيش الذي لايقهر كما تمت تسميته في اكثر من حرب خاضها، لقد كشفت حرب العام 2006 بين حزب الله وبين هذا الجيش ضآلته في المواجهة لأنه لايملك غير الامكانيات التقنية وهي غير فاعلة في الحروب امام مقاوم مصر على المواجهة. فهو انكسار اذن للاساس، اي ان الاسرائيلي بات يخاف المواجهة مع حزب الله، وكان في الماضي يزرع الرعب في قلوب العرب قبل ان يهاجمهم او يتحرك ضدهم.
لابد ان تستمر هذه الظاهرة لكي تبقى اسرائيل عاجزة الى امد طويل وبذلك يمكن لها ان تتآكل من الداخل، عندما لايتمكن الاسرائيلي من ابقاء شعبه على حالة عداء مع الخارج، فعليه ان يتوقع مالايحمد عقباه في الداخل، وقد وجدنا مظهرا لها في الصراع بين الفلاشا ذات الاصل الاثيوبي لكونهم من العرق الاسود وبين البيض الاسرائيليين، هو مايشبه تماما الصراع في الولايات المتحدة بين السود والبيض.
/// اغنية الحرب:
ترى لو تم لاسرائيل ماتبتغيه من تصفية للعالم العربي من جيوش وقوى وطنية ومقاومات وغيره لفرضت هي شروطها عليه .. ومثلما اهانت معاهدة فرساي التي وقعها الحلفاء على المانيا المهزومة في الحرب العالمية الثانية من فرض شروط صارمة وصلت الى حد منع بث النشيد الوطني الالماني من الاذاعات الالمانية، فإن الاسرائيلي قد يصل به الأمر لو تحقق له ما اراد الى فرض ماهو اقسى من الشروط وفي طليعتها الاغنية الوطنية التي يسميها البعض اغنية الحرب التي مازلت اذكر انها هدرت في الاوقات العصيبة اي في لحظات الحرب، كنشيد " الله اكبر فوق كيد المعتدي " و" يا اغلى اسم في الوجود يامصر " لنجاح سلام، و" الله زمان ياسلاحي" لأم كلثوم ، و" دع سمائي فسمائي مشرقة دع قنالي فمياهي مغرقة " لفايدة كامل .. وغيره من تلك الاغنيات التي تعاظمت كثيرا في مراحل اخرى، سواء في مصر او في العالم العربي، وخصوصا في فترات الحروب التي نحن بصددها، كحرب يونيو 67 التي كان ابرزها قفشات عبد الحليم حافظ في " اضرب " و " نذار " و " ابنك يقولك يابطل " واغنية ام كلثوم " راجعين بقوة السلاح " وغيره ، وصولا الى اغنيات عن المقاومة وعن وحدة العرب ولعله قيل في جميع المناسبات من غناء مايعبر عن المرحلة تماما.
نحن اذن امام عدو يتآكل بعدما خاض حروبا لم يجد انها سوف تنتهي رغم كل المساعدات التي تلقاها في هذا الصدد .. وكلما افلس هذا العدو في تحقيق غاياته زادت شراسته وزاد توحشه وزادت تدخلاته .. لذلك فهو يجد ان مناخه الحالي في الساحات الوطنية العربية يتيح له ان يتدخل بسرعة من اجل تحقيق تلك الغايات، فهو مايزال يتدخل هنا وهناك، يجد في جبهة " النصرة " غايته فيقدم لها الخطط والاستشفاء لمقاتليها والدعم اللوجستي وما تحتاجه، كما يكرر قادته ان وجود " داعش " لايخيفهم ولا يهدد كيانهم، اسرائيل تعبر نفسها في عصر ذهبي، فحال الأمة العربية في الحضيض مما يعني وضعا لامثيل له للكيان الصهيوني، كلما رأيت عدوك مسرورا عليك ان تشك بوضعك، والعكس هو الصحيح ان رأيته غضبانا كما يحصل اليوم، فهو في حالة البحث المستفيض ليعرف كيف الخروج من ازمة الدفاع عن الذات حول كيفية انهاء ظاهرة حزب الله الفريدة التي ستظل تشكل له رعبا وجوديا.
اذن، كل الحروب التي خاضتها اسرائيل وما خيض على العرب من حروب اخرى كان وما يزال من اجل تثبيت الممنوعات عليهم. واذا كانت حرب يونيو 1967 ابرزها وخصوصا اسقاط عبد الناصر ومنع قيام اية قيادة شبيهة بها لانها ايضا من الممنوعات، فإن هذا الامل الاسرائيلي سيظل سرابا مهما تحقق او تبدل، فالأمة العربية ولاّدة دائمة لأبطال وقادة ورجال مصير، انها قصة شعب عربي يعيش الآن متغيرات سوف تنتج في مستقبله ماصار من حلم سابق ولم يتحقق .. امة تولد على ايقاع ساخن لابد لها ان تنتج مرحلة تجد فيها غاياتها .. فقد مر عليها مثله وأعنف، لكنها ستخرج كما خرجت دائما الى أن تظل واقفة صامدة صابرة .. قدر هذه الأمة ماهي فيه من محن لأنه الطليعة، ومن يقف في الصفوف الأولى تناله الضربات الأقوى دائما.