[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
” ..ان دولة المؤسسات وتحديد المسؤوليات وسيادة القانون هي دولة المجتمع المدني والانضباط والتنظيم الإنساني من أجل تكوين إنسانية الإنسان وترابط الجماعة وتوحدها، وليس غابة يحكمها فرد أو حتى مؤسسات وأفراد متسلطين متفردين بالرأي والأفكار والمسؤوليات، تسيرهم الفوضى أو القوة والأهواء والمصالح الشخصية أو الفئوية،”
ـــــــــــــــــــــــــــ
لقد جعل الله عز وجل الجبال أوتادا للأرض، فقال في محكم كتابه العزيز{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي يرسيها بها حتى لا تميد و تضطرب، وفي قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}،أي تثبت الأرض حتى تبقى في حالة من التوازن والثبات، كما تُثبِّت الأوتاد الخيام فلا تضطرب في مواجهة الرياح، وكذلك دولة المؤسسات والقوانين، هي عماد ووتد دول المستقبل، وخصوصا تلك التي تسعى لتحقيق الأمن والأمان بكل مستوياته لأفرادها، والاستقرار لكيانها ومؤسساتها، والتقدم لتنميتها ونهضتها وبنيانها.
وبمعنى آخر، فإن دولة المؤسسات والقانون هي الشكل النهائي للدول القادرة على ضمان أمن الأفراد بأفضل شروط من وجهة نظرنا خلال المراحل الزمنية القائمة والقادمة، وذلك لمواجهة جل تلك المتغيرات العالمية على مختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتحولات العابرة للقارات وخصوصا في ظل ما يسمى بالفوضى الخلاقة وهي هدامة فوضوية في حقيقتها، وهي ـ أي دولة المؤسسات والقانون ـ أشبه بالجبال التي تبقى الدولة المدنية في حالة من التوازن والثبات والطمأنينة والاستقرار حتى لا تميد وتضطرب.
وينقسم مصطلح دولة المؤسسات والقانون إلى قسمين، أولهما: أنها دولة مؤسساتية، أو دولة تقودها وتديرها وتحركها وتحكمها الضوابط والتوجهات والمرئيات الجماعية والمؤسساتية وليس الأهواء والأفكار والآراء الفردية أو التفردية، وبالتالي فإن مؤسساتية الدولة هي طراز مستمر من السلوك الاجتماعي أو طريقة ثابتة للسلوك الجماعي وهي (مجموعة علاقات اجتماعية منظمة لتوظيف جهود الأفراد وتنظيمها من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وان ما يميز مجتمعا عن آخر هو طراز مؤسساته التي هي تكثيف لعاداته وأعرافه وتقاليده وأفكاره ومعتقداته وقوانينه ودرجة تطوره، وعلى هذا تعد المؤسسة حجر الأساس في بناء المجتمع المدني، وباختصار، فإن دولة المؤسسات أو مؤسساتية الدولة هي: مجموعة قوانين راسخة يتم وضعها لمقابلة المصالح الجماعية، وهي تنظيمات تتمتع بشرعية لإشباع حاجات الناس والدفاع عن حقوقهم عبر الزمن).
أما القسم الآخر وهو أنها دولة للقانون، أي أنها دولة تحكمها وتوجه مساراتها المؤسساتية والمجتمعية والفردية السلوكية والتنظيمية القوانين والأحكام الصحيحة والعادلة والتي لا تميز بين أحد من أفراد المجتمع، وتكون صحيحة حين يواجه انتهاكها بعدم رضا وامتعاض وحنق من المجتمع والمقاطعة ضد المنتهك، وعادلة حين لا تميز بين احد في التطبيق، سواء كان ضعيفا أو قويا أو بين فقير وغني حينها فقط نستطيع ان نقول بأن الدولة قد تحولت إلى دولة للقانون والعدالة.
وتسن القوانين وهي: مجموعة القواعد التي تنظم ـ وليس تتحكم وتحكم ـ سلوك الأفراد في الجماعة وتوفق بين مصالحهم والتي يفرض على مخالفها جزاء توقعه السلطة العامة، ( من اجل الحفاظ على مصلحة الجماعة ككل، والصيانة والحفاظ على الحقوق الأساسية التي دفعت الإنسان إلى التضحية بالعديد من حرياته لأجلها، وهذا يعني انه لكي يعيش الناس بأمان وعلى أفضل نحو ممكن، يجب عليهم ان يسعوا للتوحد في نظام واحد، وان يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم، وعلى إخضاع كل شيء لتوجهات العقل وحده، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون ان يعاملوا به)، كما تقوم القوانين من جهة أخرى بتنظيم العلاقة بين المجتمع والنظام العام للدولة، والدولة نفسها ذات السيادة بين مجموعة من الدول، أو في النظام العالمي ككل.
باعتبار ان تلك القوانين هي العقل البشري لأنها قواعد تحكم شعوب الأرض قاطبة وليست قوانين امة من الأمم إلا حالات خاصة لتطبيق هذا العقل البشري، الذي كما سبق واشرنا إلى أنه لم يوجد ليتحكم بالبشر أو يتسلط على العباد بل للعمل على تغذية نسيج المسلمات والسلوكيات المنضبطة فيهم، والتي يحكم الناس بها أنفسهم، حيث يعلمنا التاريخ بأن (مصير الأمم منوط بحكم القوانين أو بلا معقوليتها، ولا مناص من عد القوانين التي تضمن الرخاء وتتجاوب مع المصالح الاجتماعية قوانين مقدسة، وهذه القوانين ثابتة ملزمة لكل مجتمع مبني على أساس العقل ـ لا العاطفة والتسرع والانفعال والمصالح الفردية ـ ولا يسوغ انتهاكها والخروج عليها إلا مصالح الأمة العليا ) ـ والتي تحدد من خلال مؤسساتها الدستورية والبرلمانية المنتخبة وليس المسيرة أو الموجهة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
عليه فإن دولة المؤسسات وتحديد المسؤوليات وسيادة القانون هي دولة المجتمع المدني والانضباط والتنظيم الإنساني من أجل تكوين إنسانية الإنسان وترابط الجماعة وتوحدها، وليس غابة يحكمها فرد أو حتى مؤسسات وأفراد متسلطون متفردون بالرأي والأفكار والمسؤوليات، تسيرهم الفوضى أو القوة والأهواء والمصالح الشخصية أو الفئوية، على ان هذا لا يتضارب مطلقا مع وجود سلطة حاكمة أو سلطة عليا أو حكومة تراقب تلك المؤسسات والقوانين والأفراد، بل هو ضرورة عقلية ومنطقية وتنظيمية إدارية لا بد منها في أي دولة مؤسساتية ومجتمع مدني حديث يسعى لتحقيق أفضل سبل الحياة الكريمة لأفراده، على ان دور الحكومة أو السلطة وأدوارها الرئيسية في هذا البناء المؤسساتي يجب ان يقتصر على (توفير وسائل تعديل القوانين ولتسوية الخلافات حول معنى القوانين، ولتنفيذ الالتزام بها من قبل أولئك الأشخاص القليلين الذين لا يستطيعون ان يشتركوا في اللعبة دون ذلك).
وباختصار، فإننا يمكن ان نعرف مصطلح دولة المؤسسات والقانون بأنه المفهوم الذي يؤكد على انتقال الدولة من سلطة الفرد أو الفئة أو المركز إلى سلطة المؤسسة، ومن المجتمع التقليدي إلى المجتمع المدني ومن دولة تحكمها قوانين القوة والفئوية وسلطة الفرد إلى دولة يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد أو جماعات أو فئات، بل على مؤسسات: مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، (وما يوحد ويربط بين هذه السلطات الموزعة هو وحدة الفضاء القانوني، الذي يرسم لكل سلطة مجالها واختصاصاتها وحدودها، فالمعيار والمرجع والحكم في دولة القانون هو القانون سواء تعلق الأمر بالقانون الأساسي الذي هو الدستور أو بالقوانين القطاعية أو الفرعية).
فإذا تمكن المجتمع من الانتقال بنفسه من خلال إرادة حرة يدفعها ارتفاع سقف وعيه وثقافته إلى هذه المرحلة المتقدمة من المدنية والحداثة والديمقراطية التي تسود فيها سلطة القانون والمؤسسات على سلطة الفئات والتجمعات والأفراد، استقر وأمن واطمأن على حاضره ومستقبله، فدولة المؤسسات والقانون كما سبق وقلنا هي عماد ووتد الدولة المستقبلية، والشكل النهائي للدول القادرة على ضمان أمن الأفراد بأفضل شروط خلال المراحل الزمنية القادمة والتي ـ يؤسفنا ـ التأكيد على أنها لن تكون مستقرة وآمنة، بل مراحل تسودها الفوضى والفتن والاضطرابات والصراعات الداخلية والحروب العابرة للقارات.