[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]
هو الغبن بعينه للغة العربية أن (يتطوع) بعض أبنائها في النفور منها تحت طائلة ذرائع لا يستقيم منطقها في كل الاجتهادات مع الاحتفاظ بحقيقة أنه ليس هناك مواطن في هذه الدنيا يستطيع أن يتنكر للغته القومية إلا إذا كان هناك مركب نقص ما لديه إزاء ذاته والمحيط الذي يعيش فيه.
إن مناسبة الحديث عن هذا الغبن لا يتعلق باليوم السنوي للغة العربية، فموعده ليس الآن، وإنما يرتبط بسلسلة مشاهد استوقفتني كثيرًا هذه الأيام، أولها ما أعلن في مصر حاضرة اللغة العربية عن حصول ثلاثة ملايين طالب على درجة الصفر في إملاء اللغة العربية وضمن مراحل دراسية متنوعة، أما الحدث الثاني فقد جاء على لسان وزير البيئة المغربية التي قالت بعفوية (إنها تشعر بالحمى) بمعنى الضيق النفسي إذا تكلمت باللغة العربية وتفضل على ذلك الحديث باللغة الفرنسية، وقبلها رفض أحد وزراء الحكومة المغربية الإجابة على أسئلة صحفي باللغة العربية وكأن الوزيرين المغربيين يريدان أن يقولا إنهما لا يستطيعان إيصال أفكارهما إذا استخدما لغتهما الأصلية.
الصورة الأخرى لهذا الغبن الذي يستهدف اللغة العربية يكمن بما يجري على بعض الألسنة السياسية العراقية والعربية، الذين لا يفقهون ماذا ينبغي أن تكون حركة الاسم الذي يأتي بعد حروف الجر، إذ تراهم ينصبون ويرفعون على هواهم في استخدام تلك الحروف بما يلبي إمكانياتهم في النطق وليس بما يرضي (علي الجارم) أو (سيبويه) أو حتى مدرسي اللغة العربية في المدارس المتوسطة والثانوية، وتراهم أيضا يتورطون بمفردات تشعل الأجواء لأنهم لا يعرفون غيرها بما يضاهيها ولكن بمعنى أخف.
إن هذا الهروب من طقوس اللغة العربية لا يعني أن العلة فيها، فهي تمتلك سجلًّا دقيقًا من النحو والصرف الشفاف، وهي لغة اشتقاقية، وميزة كل اللغات الاشتقاقية في العالم أنها لغات جميلة بالضرورة وتحتفظ بنغمة على درجة من الرفاهية الروحية، ونستطيع أن نجد ذلك إذا أصغينا لشعر أبي تمام مثلًا أو المتنبي أو نزار قباني أو نازك الملائكة أو الجواهري وغيرهم، ونستطيع أن نتغنى بمفردة عربية معينة لأنها تحمل إيقاعًا قد لا تحمله كلمة مماثلة لها في لغة أخرى أساسها مركب وليس اشتقاقيا.
إجمالًا إن رزانة اللغة العربية هي واحدة من العوامل التي حفظت هذه اللغة، فما زلت أتذكر منذ خمسين سنة كلمة قالها أعرابي أمام والدي حين وصف عرضًا للخيول قائلًا (كانت الخيل تترى) بمعنى تتتابع، كان الرجل بدويًّا لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه يمتلك مفردات عربية أصيلة، وبمعنى هذه القصة وقصص أخرى يظل الواقع اللغوي مرهونًا باستيعاب الفرد للمفردات التي يستخدمها، وهكذا لو أن الوزيرين المغربيين تلقيا دروسًا في فنون اللغة العربية لمدة نصف ساعة يوميًّا يستقطعانها من وقتهما العام وما تفرض عليهما الحقيبة الوزارية لكانا حتمًا قد غيرا قناعتيهما في التعامل مع اللغة العربية، مع اعتقادي أنهما لم يصغيا أو يقرآ نصًا شعريًّا غنائيًّا على شاكلة الأطلال لإبراهيم ناجي أو بعض قصائد البحتري، أو لم يقرآ نصًّا علميًّا أو سياسيًّا لمفكرين عرب باللغة العربية مثل طه حسين أو العقاد أو عبدالرحمن بدوي أو إحسان عباس وغيرهم.
أما بالنسبة للثلاثة ملايين طالب مصري الذين لم يحصلوا إلا على درجة الصفر في إملاء اللغة العربية فإن واقعة الرسوب في هذا الدرس يعود حتمًا إلى خلل ما في استيعاب الرسم اللازم للكلمة وأعتقد أن هناك أضعاف هذا العدد في عموم الوطن العربي من الذين لا يجيدون التعامل مع نص أدبي أو علمي في اللغة العربية قياسًا بما يمضونه من ساعات طويلة أمام شاشات الكمبيوتر أو الهاتف النقال.
إذًا الأمر يتعلق بأسلوب التعامل مع لغتك القومية وليس بسبب آخر، إلا إذا أخذنا بحقيقة أن قصورًا ذهنيًّا ما في استيعاب دروس هذه اللغة، وهنا تكون فصول التنمية اللغوية بدون ذاكرة.