[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]
ذات مرَّة، أدلى الرئيس أوباما بأقوال لمجلة "تايم" أكَّد فيها أنَّ الولايات المتحدة ستغدو، عمَّا قريب، مَصْدَر الطاقة الرئيس في العالم. وقَوْله الأهم كان: "لقد قَلَّلَنْا كثيرًا من اعتماد اقتصادنا على النفط الأجنبي؛ ولسوف تكون لذلك عواقب جيو ـ استراتيجية هائلة، وسوف يَمْنحنا هذا الإنجاز حرِّيَّة التحرُّك في اتِّجاه جَعْل الشرق الأوسط في واقعٍ جديد، يتوافَق مع رؤيتنا (لمستقبله)".
مِنْ قَبْل، كان النفط في منطقة الخليج (في دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمها السعودية، وفي العراق وإيران) هو الذي فيه يكمن التعليل والتفسير للتطورات الاستراتيجية (الإقليمية والدولية) السياسية، وغير السياسية، وللأزمات والحروب؛ أمَّا الآن فيبدو أنَّ "السياسة"، بوجهيها الإقليمي والدولي، باتت أقل تبعية لهذا النفط، أو أكثر استقلالية عنه؛ ولعلَّ خير دليل على ذلك هو غزو صدام حسين للكويت سنة 1990؛ ولقد استذرع صدام (لغزو الكويت) بتسبُّب هذه الدولة النفطية في انهيار سعر برميل النفط إلى ما دون 10 دولارات من طريق إفراطها في الإنتاج، وإغراق السوق؛ وهذا الانهيار في السعر كان أنْ يُصيب من الاقتصاد العراقي مقتلًا؛ فوَقَعَت الحرب (أيْ غزو العراق للكويت).
سنة 2008، بلغ سعر برميل النفط 140 دولارًا؛ ثمَّ هبط، ليستقر (حتى حزيران/يونيو الماضي) على 100 دولار؛ وسعره اليوم انهار إلى ما دون 70 دولارًا. وحتى الآن، لم نرَ حربًا تقع بسبب هذا الانهيار الكبير في الأسعار؛ والمُتَّهَم الأوَّل والأكبر بالتسبُّب بهذا الانهيار (المفاجئ، المتعاظِم، المتسارِع) هو الولايات المتحدة، أو (على وجه التحديد) نفطها الذي زِيدَ إنتاجه، فزاد المعروض النفطي العالمي، بالتَّزامُن مع التضاؤل في الطَّلَب العالمي (وهذا التضاؤل هو النتيجة المترتبة على ضعف النمو الاقتصادي العالمي). وهذا الانهيار في أسعار النفط يأتي متزامِنًا مع أزمات وحروب تشتد وتعنف في دولتين من أهم الدولة المُصَدِّرة للنفط هما العراق وليبيا.
لقد تراجعت كثيرًا الأهمية الاستراتيجية للنفط في منطقة الخليج؛ والصادرات من هذا النفط هي جزء من صادرات "أوبك"، التي حصتها من مبيعات النفط على مستوى العالَم لا تتعدى الثُّلْث.
لَمَّا انهار النِّظام النَّقدي العالمي الذي أسَّست له اتفاقية "بريتون وودز"، واستبدَّ بالولايات المتحدة الخوف من عواقب تخلِّيها عن "استبدال الذَّهب بالدولار"، ذَهَب وزير خارجيتها هنري كيسنجر إلى السعودية، ليَعْقِد معها "اتفاقية"، تلتزم فيها القوَّة العظمى في العالَم حماية حقول النفط في مقابل التزام السعودية تسعير مبيعاتها النفطية بالدولار، وبه فحسب؛ وهذا عَنَى أنْ تَرْفُض السعودية بيع نفطها بغير "الورقة الخضراء".
وهكذا خَرَج نظام "البترودولار" إلى الوجود، وحلَّ "الذَّهَب الأسود" محل "المعدن الأصفر"؛ فدخلت السعودية التاريخ بصفة كونها الدولة التي أنقذت الدولار، بصفة كونه "عملة العالَم"، من هلاكه المحتوم؛ ومع حلول سنة 1975، وافقت كل الدول الأعضاء في "أوبك" على تسعير مواردها النفطية كافة بالدولار حصرًا؛ وكأنَّ كيسنجر أراد أنْ يقول للعالَم أجمع، بدءًا من عقده الاتفاقية مع السعودية: لا حياة بلا نفط، ولا نفط بلا دولار.
الولايات المتحدة هي الآن في طور ثورة "النفط الصخري"، والتي بفضلها قد تتمكَّن القوَّة العظمى في العالَم، بحلول سنة 2020، من زيادة إنتاجها النفطي بما يجعلها مُكْتَفِية ذاتيًّا من الطاقة النفطية، ومُصَدِّرة، في الوقت نفسه، لنحو 5 ملايين برميل يوميًّا، إذا ما قرَّرت واشنطن رَفْع الحَظْر المفروض على تصدير النَّفْط؛ لكنَّ السياسة النفطية للولايات المتحدة متناقضة لتَنَاقُض مصالحها؛ فهي مع السعر المرتفع (سعر لا يقل عن 70 دولارًا للبرميل الواحد) من أجل حَفْز وتشجيع الاستثمار في "النَّفْط الصخري" المُكْلِف كثيرًا استخراجه الآن؛ وهي، في الوقت نفسه، مع السعر المُنْخَفِض من أجل حَفْز نمو اقتصادها، وزيادة رفاهية مواطنيها. وقد جاء في تقرير لـ"سيتي بنك" City Bank أنَّ الولايات المتحدة قد تزيد، مستقبلًا، إنتاجها النفطي من طريق مضيها قُدُمًا في ثورة "النفط الصخري"، وتَرْفَع الحظر المفروض على صادراتها النفطية، من أجل شَنِّ "حرب أسعار"، تَسْحَق فيها، نفطيًّا، السعودية (وسائر أعضاء "أوبك"). ورُبَّما يفضي مسار التَّكَيُّف السعودي مع سعر نفط مستمر في الهبوط والانهيار إلى استنزاف الفوائض النقدية السعودية.
وحتى نُحْسِن المقارَنَة، نشير إلى أنَّ الولايات المتحدة كانت سنة 1973 تستورد 500 ألف برميل يوميًّا من السعودية، التي كانت تُنْتِج 700 ألف برميل يوميًّا (السعودية تُنْتِج الآن نحو 12.5 مليون برميل يوميًّا). وحينذاك، أَكْرَهت الولايات المتحدة (التي كان الطَّلَب العالمي على "ورقتها الخضراء" يشهد تراجعًا كبيرًا) مُنْتجي النَّفْط على بَيْع النَّفْط بالدولار، وبه فحسب.
سنة 2013، قالت وكالة الطاقة الدولية إنَّ الولايات المتحدة ستُصْبِح عمَّا قريب أكبر مُنْتِج للنفط في العالَم، متفوِّقةً على روسيا، بفضل ازدهار إنتاجها من "النَّفْط الصخري"، الذي، بفضله، أيضًا، ما عادت أكبر مستورد للنفط في العالَم؛ فهي تخلَّت عن هذه المكانة للصين؛ وعمَّا قريب، قد تصبح الولايات المتحدة أكبر مُصَدِّر للنفط في العالَم، متفوِّقةً على السعودية.
سنة 2008، كانت الولايات المتحدة تستورد أكثر من 12 مليون برميل في اليوم؛ وسنة 2015، يُتَوَقَّع ألاَّ يزيد ما تستورده من نفط عن 4.5 مليون برميل في اليوم.
والآن، ما عاد "سِرًّا" ما كان من قَبْل "أحد الأسرار النَّفْطية الاستراتيجية"، الذي أشارت إليه صحيفة "وول ستريت جورنال" Wall Street Journal قبل بضع سنوات، إذْ قالت إنَّ أكبر احتياط (أو مستودع طبيعي) نفطي في العالَم، لم يُسْتَغل بَعْد، موجود تحت جبال روكي بما يُقارِب 1000 قدم؛ وهذا الاحتياط (الخرافي) يُقَدَّر بنحو 2 تريليون برميل من النَّفْط؛ ثمَّ صَدَرَ بيان من وزارة الطاقة جاء فيه: "إنَّ لدينا (أيْ لدى الولايات المتحدة) نفطًا ضِمْن حدودنا أكثر بكثيرٍ من كل الاحتياطات الموجودة على الأرض".
وللمقارَنة، نشير إلى أنَّ احتياط دول "أُوبك" من النَّفْط الخام قُدِّر، سنة 2013، بنحو ثلاثة أرباع تريليون برميل، أيْ ما قيمته نحو 71.7 تريليون دولار حسب سعر النَّفْط الحالي.
الآن، والآن فحسب، أصبح في مقدور الولايات المتحدة الأخذ بخيار استراتيجي جديد؛ والسبب يكمن في "الاغتناء النفطي والغازي" للولايات المتحدة؛ فهذه الدولة، التي كانت في تبعية استراتيجية للنفط الأجنبي، والمتأتي من منطقة الخليج على وجه الخصوص، هي الآن دولة "مُسْتَغْنِية نفطيًّا"، قَيْد التحوُّل إلى الدولة الأولى عالميًّا في تصدير النفط والغاز، والأولى عالميًّا، أيضًا، في احتياطاتها من النفط والغاز.
الولايات المتحدة توشك أنْ تتحوَّل إلى دولة مُصدِّرة للنفط والغاز؛ والاقتصاد العالمي يميل إلى الغاز أكثر من ميله إلى النفط؛ وأهم مصادِر الغاز في العالم تَقَع في روسيا وإيران وقطر وبحر قزوين؛ وحصَّة السعودية من النفط المُنْتَج والمُصَدَّر، عالميًّا، تضاءلت كثيرًا.
إنَّها (أي الولايات المتحدة) الآن، أو من الآن وصاعدًا، لاعبٌ كبير وقوي في لعبة الطاقة النفطية والغازية العالمية؛ ولقد أضافت إلى ورقتها الرابحة استراتيجيًّا، والمسمَّاة "نظام البترودولار"، والذي بموجبه يُسعَّر برميل النفط عالميًّا بعملتها هي، ورقة أخرى هي زيادة إنتاجها النفطي بما يسمح لها بتَحكُّمٍ متزايدٍ في المعروض العالمي من النفط، وبأسعاره من ثمَّ.