”لم يعد الوضع إذا قتل في الشهر الفضيل المسلمين على يد مسلمين، بل هو تشويه للدين في أعظم أشهر السنة ـ شهر الصيام والقيام. وهذا نتاج طبيعي لإدخال الدين في السياسة والسياسة في الدين، وما نردده دوما من أن كل الجماعات الإرهابية والمتطرفة انما خرجت من عباءة تنظيمات ما يسمى "الإسلام السياسي" وفي القلب منها جماعة الإخوان.”
ــــــــــــــــــــــــــ
يبدأ الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك، الذي يصوم فيه المسلمون ويفترض أن يمنعهم صيامهم عن كثير من سفاسف الأمور بينما المسلمون يقتلون بعضهم بعضا في الشهر الحرام. لا جديد في مسألة قتال المسلمين في الأشهر الحرم، لكن رمضان تحديدا لا يتصور فيه القتال إلا إذا فرض علينا مع عدو هدد الأرض أو انتهك العرض. بل إنه في تلك الحالة ربما كان القتال في رمضان أفضل، وقد انتصر العرب على عدوهم الاسرائيلي في شهر رمضان عام 1973. أما اليوم، فمن يفترض انهم مسلمون يقتلون مسلمين آخرين (والمفروض أن الجميع صائمون) بالتفجيرات والهجمات والعمليات وحروب الميليشيات والكل مقتنع أنه يتقرب إلى الله بقتل الآخرين. من الجزائر وتونس إلى أقصى شرق عالمنا العربي لا تنقطع أخبار الضحايا بشكل يومي، ولا يبدو أن الأشهر الحرم أحدثت فرقا، فلا غرو أن يستمر القتل في رمضان. وليتنا كنا نحارب عدوا، أو ندافع عن وطن أو ما شابه، إنما هو احتراب على مغانم الدنيا يتم تبريره بمغالاة في الدين لا علاقة لها بالإنسانية أصلا ناهيك عن التدين.
يستغل المتسربلون بالدين من المتطرفين والمتشددين شهر رمضان المبارك لتوسيع الفساد في الأرض. في تلك الأيام المباركة يتصور المغيبة عقولهم أن القتل في رمضان مضاعف الأجر، وينتهز قادتهم (وهم انتهازيون كاذبون بالمطلق) ذلك لحثهم على ما يصورونه لهم أنه "شهادة في سبيل الله" فيقبل هؤلاء على القتل والتدمير بقوة أكبر. ويحول هؤلاء الظلاميون الحكمة الأساسية من الصيام (وهي انسانية روحية خالصة كما أرادها الخالق سبحانه وتعالى، في الاسلام وفي كل الأديان التي من شعائرها الصيام) إلى بشاعة دموية بالقتل والتدمير. وطبعا يصعب توقع أن يواجه المسلمون المستهدفون تلك الوحشية الإرهابية بالصوم عن القتال. وهكذا تدور المنطقة في دائرة مفرغة من القتل والتدمير والخراب يعتقد أطرافه أنهم "يحسنون صنعا".
في العراق مثلا يتقاتل الصائمون في أغلب أرجاء البلاد، من تفجيرات طائفية في العاصمة بغداد إلى اتهامات واتهامات متبادلة بين الشيعة والسنة بالتطهير العرقي من مناطق صراع إلى قتال "رسمي" تسعى في قوات الحكومة لطرد تنظيم الدولة (داعش) من إقليم الأنبار بعدما أصبح على مقربة من العاصمة بغداد. ومن مثالب دخول الدين في السياسة أن أطراف الصراع في العراق ينقضون صيام بعضهم، فداعش ترى أن صيام من لا يتبعها ليس تعبدا (ومن ثم هو منقوض) وبقية المسلمين من غير داعش والقاعدة وتنظيمات الإرهاب يرون أتباع تلك التنظيمات "خارجين عن الدين" ومن ثم لا يجوز لهم صيام ولا قيام. ولا يختلف الأمر في سوريا كثيرا، وإن زاد عدد الجماعات التي تعتبر القتل في الصيام ذا فائدة أكبر، ولا شك أن تلك الجماعات (بتكفيرها للآخر من المسلمين) تنقض صيام بعضها البعض أيضا. وربما هذا هو الحال بدرجة أو بأخرى في ليبيا واليمن وغيرهما.
لم يعد الوضع إذا قتل في الشهر الفضيل المسلمين على يد مسلمين، بل هو تشويه للدين في أعظم أشهر السنة ـ شهر الصيام والقيام. وهذا نتاج طبيعي لإدخال الدين في السياسة والسياسة في الدين، وما نردده دوما من أن كل الجماعات الإرهابية والمتطرفة انما خرجت من عباءة تنظيمات ما يسمى "الإسلام السياسي" وفي القلب منها جماعة الإخوان. ليس القتال في بلاد المسلمين من أجل إقامة دولة العدل والسماحة والإنسانية، وإنما هو صراع على منافع مادية وأرضية ولاعتبارات الزعامة والنفوذ والثروة. وما الشباب المغرر به من انتحاريين ومقاتلين إلا وقود لأمراض الدنيا لدى قادة تلك الميليشيات والتنظيمات. والأمر ذاته، بدرجة اقل عنفا ودموية لدى التنظيمات الأخرى (التي تعمل كأذرع سياسية للتنظيمات المسلحة الإرهابية). لم ينتشر الإسلام بحد السيف كما يردد الجهلاء من المتطرفين، إنما توسعت إمبراطورية المسلمين (وهي كيان سياسي حتى وإن سمي الحاكم فيه بالخليفة أمير المؤمنين) بالحروب والمعاهدات. أما الدين فلا إكراه فيه، ومن يقبل بدخوله عن قناعة لا يمكن إجباره على اعتناقه ولو بالنار.
حري بالمسلمين في شهر الصيام والتقوى استجلاء أسس الدين الحنيف، والاستقواء بعبادة الصوم على مقاومة الجهل والتطرف والتشدد والإرهاب. وما دين الإسلام الذي بعث به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هداية للعالمين إلا دين إنساني بالأساس يمثل رحمة الخالق بالبشر أجمعين. هذا ما يفترض أن يعيدنا غليه الصيام والقيام، بدلا من التكفير والقتل والتخريب والتدمير. ولو أن لي أن أقرر فإن خلافة تقوم على قتل المسلمين للمسلمين لا تخصني كمسلم يؤمن بجوهر الدين الحنيف وينبذ كل ما شابه من تعصب المتعصبين وتطرف المتشددين. وما السيف إلا للدفاع عن النفس والذود عن الأرض والعرض، وليس استخدامه للتغول وبسط النفوذ وزيادة الثروة إلا خروج على الدين كما نفهمه نحن بسطاء المسلمين. إذا كان الصوم ينهى المرء عن الكذب والفحشاء، أليس الأجدى أن ينهاه عن قتل المسلمين لأنهم لا يوافقونه الرأي أو يخضعون لسلطانه ونفوذه؟

د.أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري