اصطفت اليوم جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مدرسة الإسلام لاستقبال الشهر المعلم الذي يدعو إلى مكابدة رياضة روحية تستهدف ضبط النفس وقمع شهواتها، خاصة حين يتعرض المرء لحالة من الاستثارة أو الاستفزاز، الشهر يعلمنا الوسطية في القول والفعل، والتماس الأعذار للآخرين، ولين الجانب والتغاضي عن المعاملة السيئة بمثلها، حيث يكفي المرء المسلم الصائم أن يبعث برسالة بسيطة هادئة ولكنها عميقة المعنى والمغزى كرد على إساءة الآخرين .. إنها رسالة (إني صائم)، وفي هذه العبارة البسيطة تكمن فلسفة كبرى من فلسفات العقيدة الإسلامية، وهي المجاهدة الروحية أمام طوارئ الأحداث. فالعلاقات الإنسانية لا تستقيم إذا تصيد الإنسان أخطاء الإنسان وعزم على مواجهة السيئة بالسيئة. بل يعلمنا الصوم أن نصبر وأن نواجه الإساءة بالإحسان، وأن نعمد إلى الحوار والحجة في الرد على الخصوم مهما غالوا في عنتهم وأغلظوا في الإساءة للإسلام والمسلمين.
إنه شهر رحمة وتراحم يدعم الحوار ويضع الحدود التي ينهجها الإنسان المسلم كي يكون نموذجًا يجذب الآخر نحو التفكير في سماحة هذا الدين الحنيف.
ويأتي شهر رمضان هذا العام وقد زادت وتيرة الإساءة للدين ولنبيه الكريم على نحو لم يعهده المسلمون المعاصرون من قبل، ليس من غير أهله فحسب، وإنما من المحسوبين والمندسين والمدسوسين عليه الذين أخذوا بصولجان أعداء الإسلام والمسلمين ونيابة عنهم لنشر الكراهيات والفتن الطائفية والمذهبية، وراحوا يمارسون انحرافهم السلوكي والأخلاقي وفتنهم الطائفية متخذين من الفكر التكفيري المتطرف والمنحرف وقودًا، ويرتكبون جرائم القتل وسفك الدماء والتشريد والتهجير باسم الإسلام، ويطلقون على كل جريمة يقترفونها صيحات "الله أكبر" إمعانًا في التشويه والإساءة للإسلام والمسلمين، وتكريه غير المسلمين في خاتم الأديان وخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فإن معشر علماء الإسلام وفقهائه يقفون اليوم عند مسؤولية كبرى وأعظم أمام الله في الأخذ بناصية تغيير هذا التشويه المتعمد والإساءة المقصودة، وبذل أقصى درجات الجهد لتوعية المسلمين بخطورة ما يخطط ويراد بهذه الأمة الوسط من مكائد ودمار وحروب وهلاك، وبأيدي أبنائها والمحسوبين عليها للأسف. فشهر رمضان فرصة لهؤلاء العلماء والفقهاء لتحفيز النفس وتبصير الناس بأمور دينهم وإرشادهم إلى طريق الخير والمحبة والألفة والتعاون، وأن مظاهر التطرف والغلو والتكفير والتشدد ليست من الإسلام، وأن قتل النفس بغير حق أو إراقة قطرة دم واحدة بغير حق حرام في الإسلام، بل إنه شدد في العقوبة وغلظها خاصة إذا كان صاحب هذه النفس وصاحب قطرة الدم من أهل الشهادتين، وأمر بحفظ النفس والعقل والمال والأعراض والأخلاق والدماء، وحرم استحلالها وأوجب العقوبة على مستحلها دون وجه حق، والحق في ذلك أوكل الله تنفيذه إلى أولي الأمر فقط حفظًا للمجتمعات من الفوضى والفتن والكراهية والهلاك.
إن شهر رمضان المبارك، بما أسبغه الله تعالى على أيامه ولياليه من فيوض وإشراقات روحانية، فرصة سانحة لتزكية النفس وتطييبها بالفضائل والمكرمات، وغسلها من دنس الذنوب والأخطاء والأوهام بالأعمال الصالحات، والعمل بذات القدر على إعادة وصل ما انقطع بين الناس بعضهم بعضًا، وتعميق مبادئ الأخوة الإنسانية وتجسيد قيم التراحم والتكافل والتعاضد الاجتماعي. كما أنه فرصة لتزكية المال والإكثار من فعل الخير والإحسان، وإيلاء المزيد من الاهتمام والرعاية للفقراء والأيتام والمرضى، هي من سمات أولياء الله الصالحين، ودأب المصلحين المخلصين .. ذلك أنها من موجبات الرضا الإلهي في هذا الشهر المبارك.
وفي الختام نسأل المولى جلت قدرته أن يعيد هذا الشهر الفضيل على قائد مسيرة نهضتنا وتاج عزنا وفخارنا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة ويديم السلام والأمن والرخاء لعُمان ولشعبها تحت قيادته الظافرة والحكيمة، ويكتب السلام والأمن للعالم أجمع، إنه سميع مجيب.