[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
حين أتت الولايات المتحدة برجل ملون ليقودها لولايتين متتاليتين كان الانطباع أول وهلة أن القوة العظمى عازمة على التصالح مع ذاتها أولًا ومع العالم ثانيًا وخاصة مع الدول التي اكتوت بحروبها الإمبريالية وتدخلاتها واستعمارها كالعراق وأفغانستان لكونهما آخر دولتين تكتويان بالإمبريالية الاستعمارية الأميركية وتدمر بنيتهما التحتية ويمزق نسيجهما المجتمعي، وتنهب ثرواتهما ويعطى "الإرهاب القاعدي" قوة دفع إضافية والذي أنتجته مع قوى إقليمية في الثمانينيات لمحاربة الاتحاد السوفيتي العدو اللدود للرأسمالية، والعمل على تلقيحه مجددًا لإنتاج مزيد من الخلايا الإرهابية على النحو المشاهد والماثل في "داعش والنصرة وبقية التنظيمات الإرهابية التابعة لهما والتي تمارس حرفتها جميعًا تحت راية الإرهاب القاعدي في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن وتونس والحبل على الجرار وفق ما تفرضه سياقات الأهداف الاستراتيجية الصهيو ـ أميركية.
وما زاد من الانطباع بأن الولايات المتحدة مقدمة على التصالح وتحسين وجهها الذي مرغه في رغام الذل والإهانة رئيسها السابق سيئ الصيت جورج بوش "الصغير"، هو البرنامج الانتخابي الذي أعلنه الرئيس باراك أوباما والذي على ضوئه اختارته ديمقراطية الحزبين "الديمقراطي والجمهوري" المتبادلة بينهما، حيث كان من بين ما تضمنه البرنامج الانتخابي هو سحب القوات الأميركية من العراق، وإغلاق معتقل جوانتانامو سيئ السمعة وأحد الأسباب المسيئة لصورة الولايات المتحدة، وعالم خالٍ من الأسلحة النووية وخفض الاستراتيجية النووية ووضع نهاية للحرب الباردة، وحل الدولتين لإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي وغيرها.
وبالنظر إلى جملة تلك الأهداف في البرنامج الانتخابي لأوباما ومقارنتها مع الواقع، فإن الصورة تبدو مشوشة ومغايرة تمامًا عن صورة الانطباع التصالحي، بل ومتسرعة لأن الطبع غالب على التطبع، ويتضح ذلك عبر الآتي:
أولًا: إذا كانت القوات الأميركية الغازية للعراق قد خرجت في جنح الليل تجر أذيال الهزيمة في أغسطس عام 2010م جراء ضربات المقاومة الشعبية العراقية، وتنفيذًا للبرنامج الانتخابي الأوبامي والذي هو في الحقيقة مطلب رئيس وملح من الشعب الأميركي الذي لم يحتمل رؤية مواكب النعوش التي تأتيه كل يوم، فها هي تعيد احتلال العراق من جديد تحت ذريعة مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي عبر ما سمي باستراتيجية أوباما والتحالف الدولي الذي تشكل بموجبها. وكما هو معروف أن الرئيس الأميركي ما هو إلا منفذ لثوابت سياسية وأهداف استراتيجية موضوعة من قبل، فإنه من الواضح أن واشنطن حين قررت المغادرة كانت قد رتبت المسرح العراقي للعودة إليه مجددًا، عبر ما زرعته من إرهاب "قاعدي وداعشي ونصراوي"، إذ أصبح من الثوابت في السياسة الأميركية أن الإرهاب والوجود الأميركي أمران متلازمان كتلازم السبب والمسبب له، فلا يوجد أميركي إلا والإرهاب معه، والعكس صحيح. وما يشهده العراق اليوم من عودة تدريجية للقوات الأميركية المحتلة وعلى شكل دفعات وإقامة قواعد عسكرية تحت ذريعة مساعدة القوات العراقية ومحاربة "داعش"، هو إعادة احتلال العراق ليكون منصة متقدمة لضرب أمن المنطقة واستقرارها وتفتيتها.
ثانيًا: تبنى مجلس الشيوخ الأميركي الخميس الماضي صيغته لقانون الدفاع السنوي والتي تعزز القيود على إغلاق سجن جوانتانامو الأميركي في جزيرة كوبا. وحظي اقتراح القانون بتأييد 71 عضوًا مقابل اعتراض 25 عضوًا. وسيتم في الأشهر المقبلة الجمع بين هذه الصيغة وتلك التي أقرها مجلس النواب، علمًا أن الجمهوريين يهيمنون على المجلسين، وسبق أن توعد الرئيس باراك أوباما باللجوء إلى الفيتو لتعطيل هذا الاقتراح جراء خلاف على الموازنة، وجعل الجمهوريون سقوف إنفاق البنتاجون أكثر مرونة، لكن الرئيس الديمقراطى يريد أن يسري ذلك أيضًا على النفقات غير العسكرية. كذلك، فإن اقتراح القانون يعزز القيود التي فرضها الكونجرس على سجن جوانتانامو والتي سبق أن حالت دون أن يفي أوباما بالوعد الذي قطعه العام 2009 بإغلاق السجن، ولا يزال 116 معتقلًا في جوانتانامو الذي افتتح قبل أكثر من 14 عامًا، والذي أصبح رمزًا للظلم والاستعمار والإمبريالية والتعجرف للقوة العظمى.
ثالثًا: ارتفاع وتيرة التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية للدول واستغلال الإرهاب وأدواته والجماعات المتمردة والخارجة عن القانون في ضرب الأمن وزعزعة الاستقرار في الدول التي تسعى إلى استهدافها كما هو الحال في أوكرانيا وروسيا والصين وسوريا واليمن وليبيا ومصر وغيرها، والبدء بتوسيع النشاطات العسكرية والتجسسية لحلف شمال الأطلسي في الجوار الروسي في أوكرانيا ودول البلطيق تحت ذريعة الدفاع عنها ودرء أي اجتياح روسي مزعوم لها، الأمر الذي أغضب روسيا والذي كان من نتائجه العودة إلى الحرب الباردة ـ وإن كانت تصريحات الأميركيين والروس بالنفي وعدم الرغبة في ذلك إلا أن الواقع هو من يؤكد عودتها ـ، فليس من قبيل المصادفة إعلان روسيا وأميركا عن أسلحة جديدة وتجارب صاروخية، كما أنه ليس من قبيل المصادفة تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإضافة أكثر من أربعين صاروخًا بالستيًّا عابرًا للقارات إلى ترسانة روسيا النووية في عام 2015م، مرسلًا رسالة تحذيرية واضحة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسط توترات متصاعدة، ما يشكل انتكاسة واضحة لكل ما أعلنه أوباما بداية عن عالم خال من السلاح النووي وخفض الاستراتيجية النووية للولايات المتحدة وروسيا والتعهد بخطوات حازمة بشأن ذلك.
رابعًا: على صعيد الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لم تنتج كل المبادرات المعلنة للرئيس أوباما أي تقدم نحو حلحلة هذا الملف، بدءًا من إعلان حل الدولتين ومرورًا بما سمي تجميد الاستيطان ومهمة جورج ميتشل، ووصولًا إلى مبادرة جون كيري وزير الخارجية الأميركي ذات الأشهر التسعة والتي تبين أنها عبارة عن حمل كاذب، في حين يواصل كيان الاحتلال الإسرائيلي قضمه ما تبقى من أراضي الضفة والقدس الشرقية، رافعًا وتيرة الاستيطان إلى أقصى درجاتها، وفوق ذلك كان التعطيل الأميركي حاضرًا وموجَّهًا ضد أي جهد تقوم السلطة الوطنية الفلسطينية، سواء في أروقة الأمم المتحدة لنيل عضوية لدولة فلسطين، أو الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية، أو الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية وتقديم ملف جرائم الحرب للاحتلال الإسرائيلي، أو التستر والدفاع عن جرائم الحرب جراء العدوان الإسرائيلي الإرهابي على قطاع غزة.
إذًا، من الواضح أن إتيان الولايات المتحدة برجل ملون كأوباما ودعم برنامجه الانتخابي كانت طبيعة الموقف وصعوبة اللحظة التي تمر بها الولايات المتحدة تستدعي ذلك، ولهذا لا نستغرب أن تكون الحصيلة صفرًا لثماني سنوات قضاها أوباما في البيت الأبيض لم يشهد أثناءها العالم إلا مزيدًا من الإرهاب والخراب والدمار تقوده معسكره القوة العظمى.