ما من شك أن لكل مجتمع ثقافته وخصوصيته ومنظومة القيم التي تميزه عن غيره، وثقافتنا باعتبارها جزءًا من العالمين العربي والإسلامي، بنت خصوصيتها على أساس من التسامح والتراحم والتواصل مع الآخر استمدادًا من العقيدة الإسلامية السمحة، ومن القدوة المهداة رسول الرحمة والتسامح والتواضع والحلم والصبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك تميزت بخصوصيتها نتيجة الثقافة المجتمعية السائدة والمميزة للمجتمع العماني والإنسان العماني الذي ضرب منذ الأزل أروع الأمثلة في التسامح والتواصل وقبول الآخر، كيف لا؟ وهناك ما يؤكد هذا الثابت في الثقافة العمانية ألا وهو قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". كما نهضت الثقافة العمانية أيضًا على مد جسور التواصل والتلاقي والتعارف وتبادل المصالح والمنافع مع العالم والتعاون في كل عمل يعود بالخير والنفع على البشرية.
وقد ضرب لنا التاريخ العماني أروع الأمثلة في قيم التسامح والتواصل الحضاري مع الآخرين، فمآثر العمانيين القدماء والتأثير الحضاري والثقافي العماني لا تزال شواهده تحكي ما سطره العمانيون، حيث يذكر التاريخ الكثير من أسماء الأساطيل التي صالت وجالت في البحار والمحيطات، والدور الذي لعبته البحرية العمانية في ربط جسور المودة والتقارب مع كافة الشعوب شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، فقد جابت السفن العمانية البحار من الصين إلى الولايات المتحدة مرورًا بمعظم الموانئ المعروفة في مختلف القارات، حيث كان للإسهامات العمانية دور كبير في التاريخ الحضاري والإنساني، سواء من خلال معرفتهم بخطوط الملاحة البحرية، وإسهامهم في المساعدة في الكشوفات الجغرافية الشهيرة في العصور الوسطى، وإسهامهم في نشر الإسلام، فضلًا عن التبادل التجاري والثقافي، حيث تشير المصادر إلى تجارة التمور واللبان وغيرهما التي راجت خلال القرون والحقب الماضية.
وما يبعث على الفخر أن حادي مسيرة نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أعطى الثقافة العمانية المزيد من الزخم وأعلى من شأنها، حيث انطلقت رؤية جلالته من تلك المنظومة السمحة لدعم وتنمية المعرفة الإنسانية، وإقامة جسور التواصل بين ثقافتنا والثقافات الأخرى، ولأجل التقريب بين الثقافات وتعميق أدوات الحوار، وتحقيق هدف التلاقي الحضاري بيننا وبين العالم الذي نعيش فيه.
ويأتي انطلاق أعمال المؤتمر العالمي "الدور الحضاري لعُمان في وحدة الأمة" بكوالالمبور أمس والذي تنظمه الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا ممثلة في المعهد العالمي لوحدة المسلمين بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالسلطنة ومؤسسة "ذاكرة عُمان" شاهدًا تاريخيًّا حيًّا على الدور العماني الحضاري والتاريخي وإسهاماته عبر التاريخ، وعلى ما يميز المجتمع العماني من انفتاح على الثقافات الأخرى، وكذلك على الرغبة الأكيدة في الإفادة والاستفادة من الآخرين.
إن هذا المؤتمر الذي يستمر حتى العشرين من الشهر الجاري بمشاركة أكثر من خمسة وخمسين باحثًا ومفكرًا من السلطنة وخارجها، يعد مكملًا لسلسلة المؤتمرات والمعارض الدينية التي طافت عددًا من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وإضافة إلى الرصيد الحضاري لعُمان والتعريف بها واجهةً حضارية وثقافية، ورمزًا للمحبة والألفة، وقبلةً للتسامح واحتضان الآخر، بغض النظر عن معتقده وعرقه وجنسه ولغته. كما أن مؤتمر "الدور الحضاري لعُمان في وحدة الأمة"، يمثل فرصة طيبة للتعريف بالقامات العلمية والأدبية العمانية التي أثرت الفقه الإسلامي والحراك الثقافي والأدبي كالإمام نور الدين السالمي وجهوده في وحدة الأمة وأبومسلم البهلاني وأدواره في الوحدة الإسلامية.
إن مثل هذه الفعاليات تعد مكسبًا للسياسة العمانية ورصيدًا مضافًا إلى أرصدة التسامح والثقافة والتواصل، وهي فعاليات بلا شك مقدرة وتبعث على الفخر.