جمعة بن خلفان البطراني
المواطنة في الماضي: لم تكن المواطنة تثير نقاشاً أو جدلاً في التاريخ الإسلامي الماضي، في مراحله المختلفة، وأدواره التي عاش فيها المسلمون مع غيرهم، عيشة هانئة مستقرة، قائمة على الاعتراف بالذات، سواء في ديار المسلمين غيرهم، لوضوح الاعتبارات الإسلامية في معاملة المسلمين لغيرهم، والتزام معاييرها وتطبيق مقتضياتها، لأن المسلم سواء أكان حاكماً أم شخصاً عادياً يتميز بالتزامه الدقيق بشريعة الإسلام في القضايا الحساسة، ولرغبة المسلمين في تقديم أنموذج طيب عن رسالة الإسلام، ونشر دعوته في الآفاق الداخلية والخارجية، ليكون التعامل طريقاً جذَّاباً لقبول عقيدة الإسلام ومناهجه وشرائعه كلها.
المواطنة في عصرنا: أما اليوم في عصرنا الحاضر فقد أصبحت المواطنة من أهم المشكلات المثيرة للجدل والبحث، في بلاد المسلمين أو في غيرها، بإيحاءات المفاهيم الغربية، وتعقيد المسائل، وإرباك الموقف الإسلامي دولاً وشعوباً، وكثرة السكان وقلة الموارد.
هذا مع العلم بأن الإسلام هو أول شرعة كبرى دعا إلى الوحدة الإنسانية الشاملة ليعيش الناس في تفاهم ومودة وتعاون وأمن واستقرار، في نصوص كثيرة، منها قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ..﴾(1)، وقول النبي : (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى»(2).
مفهوم المواطنة: وأما المواطنة في المفهوم المعاصر أو الدولة الديمقراطية: فهي ( انتماء الإنسان إلى دولة إقليمية معينة ) ، فهي تتطلب وجود دولة بالمعنى الحديث، ووجود وطن ذي أنشطة وفعالية أو إقليم محدد، وعلاقة اجتماعية بين الفرد والدولة، والتزام بالتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، ومشاركة في الحقوق والواجبات، واحترام نظام الدولة وعلاقته بالحاكم على المستوى الدستوري والقانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فيعبر المواطن في الدولة عن رأيه ومصالحة بحرية في مظلة ضمانات مقررة.
أسس المواطنة: وهذا يتطلب توافر أساسين للمواطنة، الأول: الحرية وعدم استبداد الحاكم، والثاني: توافر المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو المذهب أو العرف. ولا يتوافر هذان الأساسان إلا بوجود نظام سياسي لخدمة الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب وللشعب، ونظام قانوني لمعرفة حقوق الإنسان المواطن وواجباته، ونظام اجتماعي يعتمد على حب الوطن، ومعرفة حقوق الوطن، والسلوك العملي المعبِّر عن احترام حقوق الوطن على أبنائه، كالدفاع عنه وعن المواطنين وحقوقهم وعن حقوق الدولة.
وأساليب المواطنة الإسلامية هي الدعوة الجادة والحازمة إلى الألفة والوفاق وإشاعة الأمن والوئام انطلاقاً من الآية القرآنية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ﴾(3).
إن التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة بالمفهوم الإسلامي ينبع مما يأتي:
1- "وحدة الأصل الإنساني أو النزعة الفطرية الإنسانية: فكل الناس سواء في أصلهم وجنسهم وميولهم الفطرية التي تقتضي التمسك بالمواطنة وحب الوطن، حتى إنه جعل الإخراج من الوطن معادلاً لقتل النفس، بصريح قوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ..﴾(6) فالتمسك بالوطن أو الانتماء الوطني غريزة أو نزعة إنسانية أو فطرة مستكنة في النفس الإنسانية، قال الخليفة عمر t: " لولا حب الأوطان لخرب بلد السوء " أي إن الوطنية ملازمة للإنسان، حتى ولو كان البلد فقيراً وأهله أشراراً.
وحينما أمر الله -تعالى- نبيه بالهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، تأمل في مكة ونظر إليها وقال: "والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت" فأنزل الله -تعالى- مطمئناً له: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾(7).
وجعل القرآن الكريم الدفاع عن الوطن جهاداً في سبيل الله -تعالى-، فقال -سبحانه-: ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ.. ﴾(8) وهذا دليل على أن الغيرة على الوطن النابعة عن حبه، تدفع الإنسان إلى الاستماتة في سبيل الدفاع عن وطنه، وهذا مشروع، كالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى.
2- وحدة المصالح المشتركة والآمال والآلام: إن الوطن وعاء المواطنة، فمصالحه واحدة، وآماله بجعله عزيزاً كريماً وسيداً محصناً منيعاً هي واحدة، والآلام والمضار التي قد تجعله معرَّضاً للمخاطر مشتركة، كل ذلك يدفع المواطن إلى الالتقاء مع بقية المواطنين على خطة واحدة، وعمل واحد، سواء بالتحرر من الدخيل المحتل، أو ببنائه على أسس وقواعد قوية تحميه من كل ألوان العدوان والتخلف وصونه من الأزمات والانتكاسات، لأن الخير للجميع، والسوء أو الشر يعمُّ الجميع، وهذا يدفع المواطنين إلى الوقوف صفاً واحداً، والتعاون يداً واحدة لرفع كيان الوطن، وصون عزته وكرامته، مما يجعل الوطن الذي هو وعاء المواطنة حقاً عاماً لاستيطان جميع المواطنين.
أيها الأخوة : إن الأمة الإسلامية القائمة على بنية المجتمع المتعدد المذاهب والأعراق والغايات في أي قطر إسلامي تؤمن بعقيدة واحدة، وتظللها شريعة واحدة، وتربطها أخوة واحدة، كما قال-تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(9).
فهي أمة واحدة خالدة على مدى التاريخ، لا تفرقها المصالح الصغيرة، ولا تفكك رابطتها الجامعة القضايا الجانبية، فكان المصطلح الإسلامي هو التعبير بالأمة الواحدة، وليس بالشعب الواحد.
وتكون المواطنة في الإسلام في أصل مفهومها أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطناً، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات .
للموضوع بقية