[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” رغم هذا الخطب الجلل فإني أميل إلى التحليل العلمي التاريخي الرصين الناجع لأنه وحده ينير الطريق لمقاومة هذه الظاهرة العنيفة الطارئة خارج الحسابات السياسوية الضيقة والمعالجات الحزبية الأنانية والتي تبارى فيها البعض بإصدار البيانات والتعليق المتشنج على بلاتوهات الفضائيات تكيل التهم لبعضها البعض وكأني بها تتاجر بدماء الضحايا والعياذ بالله.”
ـــــــــــــــــــــــ
كنت في باريس يوم الجمعة الماضي الذي شهد حدوث ثلاث عمليات إرهابية في كل من مصنع الغاز الفرنسي وفي فندق سياحي على شواطئ تونسية وفي مسجد في مدينة الكويت. ثلاث قارات هي أوروبا و إفريقيا وآسيا، حيث الخليج. ثلاث عمليات إختلف منفذوها واختلفت أصنافها لكنها صدمت الرأي العام هنا وهناك بدرجة العنف غير المسبوق وعدد الضحايا الأبرياء والرجة النفسية التي أحدثتها ثم التحليلات التي أعقبتها وتداخل فيها الأيديولوجي بالأكاديمي ولا يسع المواطن العادي سوى الوقوف إجلالا أمام مأساة الضحايا وتقديم التعازي لأسرهم وذويهم ولكني بالرغم من فداحة الخسارة التونسية وطني الأصلي حيث نكبت مليون أسرة تونسية في مورد رزقها وهي العائلات التي لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بهذا القطاع الحيوي لبلاد ما تزال هشة المؤسسات هزيلة الموارد, رغم هذا الخطب الجلل فإني أميل إلى التحليل العلمي التاريخي الرصين الناجع لأنه وحده ينير الطريق لمقاومة هذه الظاهرة العنيفة الطارئة خارج الحسابات السياسوية الضيقة والمعالجات الحزبية الأنانية والتي تبارى فيها البعض بإصدار البيانات والتعليق المتشنج على بلاتوهات الفضائيات تكيل التهم لبعضها البعض وكأني بها تتاجر بدماء الضحايا والعياذ بالله. فالذي وقع في العمليات الثلاثة مرتبط بشبح داعش مبدئيا ولكن الأبحاث الجنائية والقضائية لاتزال في بدايتها ولا يمكن الجزم بهذا السيناريو أو ذاك إلا بعد التأكد بالحجة من مصدر العمليات وغايات محركيها وانتماءات منفذيها في فرنسا وتونس والكويت. ولهذا السبب سعدت عند حلولي بباريس بصدور كتاب جديد هذه الأيام للزميل المؤرخ الفرنسي (بيار جون لويزار) باللغة الفرنسية يحمل عنوان داعش. الدولة الإسلامية وعودة التاريخ والمؤلف يعتبر راصدا أمينا لتحليل كل ما يطرأ على العالم الإسلامي من تطورات وما يعتريه من أزمات وما ينتظره من مصير فالزميل لويزار أستاذ مبرز في الحضارة الإسلامية ومتخصص في شؤون العراق وسوريا صدرت له منذ 1990 مجموعة من الأعمال حول العلاقات العسيرة بين الإسلام والغرب وقضايا الإستعمار الجديد والمجتمعات المدنية في الدول الاسلامية ومكانة العلمانية في الإسلام المعاصر وهو ما جعل كتبه الثمانية تشكل كنزا ثمينا وأمينا من التحليلات الراقية والحجج الموثقة بوأت الاستاذ لويزار منزلة أكاديمية راقية ليحتل منصب مدير للدراسات الإسلامية صلب المركز الوطني للبحوث الإجتماعية أعلى مؤسسات البحث العلمي في العلوم الإنسانية في باريس. وهذا الكتاب ينأى بالمؤرخ عن التفاسيرات الجاهزة السهلة والتبريرات الأيديولوجية المكررة ليحفر في ذاكرة التاريخ عن جذور ظاهرة داعش و أسباب إنتشارها السريع ويقدم للقارئ مادة تاريخية ثرية تجعله يفهم تسلسل التاريخ الحديث بكل حلقاته المتعاقبة المترابطة كما يعدد أخطاء المسلمين وأخطاء المستعمرين الذين أسسوا للكوارث منذ مطلع القرن العشرين ومهدوا لفوضى الشرق الراهنة بانحيازهم لمصالحهم الضيقة كما ينظر المؤلف نظرة النقد لسوء التقدير الأميركي والغربي عموما في التعامل مع الهزات العنيفة التي زلزلت الشرق الأوسط منذ عقود قليلة وكل هذه الحلقات المتتالية والمنطقية هي التي أوصلت العالم الإسلامي إلى حالته الراهنة من تفكك الدولة القومية وانهيار الأيديولوجيات المستوردة وتشديد الخناق على مصير المسلمين حتى يخضع المشرق العربي لسطوة رأس المال المتغول في الغرب و الذي تقوده حكومة الظل المالية المنتصبة في مان هاتن. وما كان العالم الإسلامي ليبلغ تلك الدرجة من الخضوع لشروط الغرب اليميني النهم لولا شانتشار الإستبداد وغياب المشاركة الششعبية وفقدان الشفافية في إدارة ملفات الحكم. إن الواقع العربي والإسلامي متشعب وعصي على الجمهور العريض حل طلاسمه بسبب إنحدار بعض وسائل الإتصال والإعلام لدينا إلى أسفل سافلين وهي التي تفننت في التلاعب بالعقول وفي تطويع الناس نفسيا لتقبل الهزيمة. إلا أن هذا العالم الفرنسي الموضوعي استطاع أن يفك ألغاز الظاهرة الداعشية حين قرأ مجريات الأحدث الإستعمارية والعلاقات بين الإسلام والغرب في محطتها الأساسية المتمثلة في معاهدة (سايكس بيكو) التي وقعها وزيرا خارجية الأمبراطورية الفرنسية والأمبراطورية البريطانية يوم 16 مارس سنة 1916 لتقاسم ما سماه سياسيوهم أنذاك بتركة الرجل المريض المحتضر فتسلح الوزيران المنتصران في الحرب العالمية الأولى بقلم ومسطرة ورسما حدود خارطة جديدة وغريبة للوطن العربي تعود فيها العراق (بلاد ما بين النهرين) لبريطانيا ويعود الشام (بمافيه سوريا ولبنان وفلسطين وضفتا نهر الأردن) لفرنسا ولم يكن هذا التقسيم العشوائي سوى لي عنق التاريخ لإخضاعه للجغرافيا الإستعمارية و(الدولة القومية) هي فكرة دخيلة لم يعرفها المسلمون بتاتا ، ولم تولد من رحم الأمة الإسلامية بل نصبها الإستعمار البريطاني أول مرة سنة 1920 في العراق بدعوى إنشاء دولة عراقية قومية! بينما العراق كان ولاية تابعة للسلطان العثماني وكانت الانتماءات تعاش وتمارس لكل طوائفه وعشائره وأديانه باعتبار رئساء تلك الطوائف والعشائر وأئمة الأديان هم المراجع والشيوخ بلا حدود قومية ولا ولاءات لجنسية بل كما يقول المؤرخ الفنسي فإن مصطلح (الجنسية) ذاته لم يكن معروفا البتة الى مطلع القرن العشرين ولم تكن للعراقيين وثائق هوية والدليل أننا نجد اليوم أغلب العراقيين يرجعون بأصولهم العرقية إلى قبائل حجازية معروفة أولها قبيلة شمر وتميم. فكان زرع فكرة الدولة القومية عملا يخدم مصالح الأنجليز لا غير لكنه يشوه البنى الاجتماعية للعراق التقليدي ويبذر الفتنة الطائفية لأن كل طائفة أرادت بالطبع حماية مصالحها بفضل التمكن من مقاليد الحكم صلب تلك الدولة القومية الناشئة وهو ما وقع أيضا في لبنان وسوريا وبشكل مختلف في ليبيا واليمن. إن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج حسب تحليل لويزار. لاحظوا أن نفس الغرب الصليبي المستعمر أراد اليوم تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها في لبنان في الأربعينيات فأعادها في العراق ففي لبنان بعد فصله عن الشام الكبير قررت باريس الاستعمارية في الأربعينات إنشاء دولة بتقسيم مراكز السلطة بين الطوائف فنص الدستور على أن رئيس الجمهورية ماروني ورئيس الحكومة سني ورئيس البرلمان شيعي وفي الدستور العراقي لسنة 2005 قرر الاحتلال الأميركي أن يكون رئيس الجمهورية كرديا ويكون رئيس الحكومة شيعيا ويكون رئيس البرلمان سنيا !!! نفس التعاطي العشوائي المرتجل (يؤكد المؤرخ) مع تقسيم المشرق العربي إلى دويلات طائفية أو مؤسسات شبه فيدرالية منقولة عن المثال السويسري أو البلجيكي ولكن هيهات أن تستوي دول ملفقة مرتجلة لا يستقيم لها أمن ولا اقتصاد ولا مؤسسات.
الغاية الأمبريالية الجديدة القديمة هي تفكيك المفكك وتشتيت المشتت. لكن هنا لا بد من قراءة مولد وانتشار تنظيم "داعش" من خلال هذه الحقائق ومن هنا جاء عنوان الكتاب وهو (عودة التاريخ) الى ما كانت عليه الأوضاع الجغرافية والتاريخية ما قبل سايكس بيكو وما قبل إحتلال العراق في أفريل2003 ولم يكن هذا الحنين للماضي أو للسلف ممكنا لولا إفلاس كل الأيديولوجيات المستوردة من قومية واشتراكية وعلمانية وأصولية ولولا دخول العالم المشرقي في مرحلة مطبات وتيه وفقدان بوصلة نسأل الله تعالى أن يعجل بإنقاذنا منه وهدينا إلى سواء السبيل.