كان يوم رحيله عنا حصة دراسية بلا جرس أو ضجيج، حصة ستبقى مستمرة لأن فصولها وقاعاتها ومناهجها وأنشطتها كتبتها أفعاله وتضحياته؛ إنه المربي الفاضل، الشيخ الأستاذ القدير عبد القادر بن سالم السيل الغساني ـ رحمه الله ـ الذي رحل عنا بجسده يوم الجمعة الماضي الموافق 9 رمضان عام 1436 هجرية الموافق 26 من شهر يونيو 2015 ميلادية عن عمر 95 عاما أمضى أكثرها في التربية والتعليم. صعدت روحه إلى الرفيق الأعلى، عاد جسده إلى التراب؛ لكنه في الحقيقة بقي بيننا حيا بسيرته العطرة ودروسه وحكمته ومنجزاته، بقي كل ذلك ميراثا من الخير والقيم يتعاطاه الكبار والصغار. جاء تلاميذه من البادية ومن الجبل ومن المدن ومن القرى، من شمال عمان وجنوبها ومن خارج عمان من المعلمين الوافدين الذي يشيدون به إبان عملهم معه في السلطنة يوم كان مديرا عاما للمديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة ظفار. اكتظ جامع السلطان قابوس في صلالة بألاف المصلين يتضرعون إلى الله عز و جل أن يغفر للأستاذ، منهم الوزراء والأطباء والمعلمين والمهندسين ورجال الأعمال، ذكورا واناثا، صغار وكبارا، منهم من تتلمذ عليه ومنهم من تتلمذ على تلاميذه. استطاع الشيخ أن ينسج حبه في قلوب الكبار والصغار، لأنه منح بسخاء وأعطى بلا حدود، جمع أخلاق المتصوفين الصالحين، وحكمة وعلم المعلمين، كان يعرف جيدا أين ومتى يضع كلماته وعرف عنه اتقانه لإدارة أوقاته والحفاظ على صحته، فكان منضبطا جدا في حياته إلى درجة أنه كان مخصصا وقتا ومكانا للأذكار ومكانا ووقتا للصلوات النافلة ومكانا آخر لقراءة القرآن وتدبره ومكانا آخر للحوار واستقبال محبيه من تلاميذه وأصدقائه. كان منضبطا في طعانه وشرابه وكان قدوة في ذلك لا يأكل طعاما على طعام، يصغي جيدا لذكاء معدته ويصغي لهمس روحه ويقضي أوقاتا طويلة مع تفكيره وعقله. بالإضافة إلى ذلك كان يمارس الرياضة وكان ملتزما جدا بورد يومي للمشي وممارسة التمارين الرياضية، وهذا ما ساعده أن يعيش قرابة قرن من الزمن محتفظا بصحته وبقواه العقلية ويقظته الروحية، وكان طيلة حياته المهنية يأتي مبكرا قبل جميع الموظفين، وعرف عنه أن قبل أن يأتي الى عمله فغالبا ما كان يزور والدته فيقبل رأسها ويطمئن على أحوالها ثم يبدأ يومه في نشاط وحيوية وحماس وتجرد. عرفه الجميع الأستاذ عبد القادر. غلبت مهنة التعليم جميع الألقاب التي حظي بها وأكرمه بها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ حفظه الله. يخبرني تلميذه المقرب جدا منه الدكتور سالم بن عقيل مقيبل أنه أخبره قبل وفاته بأيام قليلة بأنه مستعد الآن للقاء ربه، وذكر له بأنه حقق جميع ما يريد في هذه الدنيا، فقد بنى مسجدا وأوقف عددا من البيوت وخصص بيته القديم كمكتبة عامة وخصص لها أوقافا للإنفاق عليها، وأعطى كل ذي حق حقه، ونشر رسالة العلم في البوادي والجبال والسهول والوهاد والمدن، فهو بحق أبو التعليم في محافظة ظفار، وخلال فترة عمله مشرفا على التربية والتعليم في محافظة ظفار ساهم في تجسيد توجيهات حضرة صاحب الجلالة لتعليم الفتاة العمانية، وشجع الفتاة على التعلم وعلى العمل، وشارك في صياغة المناهج العمانية وساهم في كتابة التراث العماني وتدوينه من خلال اشتراكه في ندوة الدراسات العمانية التي شارك فيها ابان ثمانينات القرن الماضي، حيث ألف كتابا بعنوان شجرة اللبان.
بالإضافة إلى ذلك عمل مستثمرا وساهم في انشاء العديد من شركات المساهمة العامة في المحافظة وكان يعرف كيف يدير المال وكيف ينفقه، وقليل من الناس ومنهم كاتب هذه الكلمات يعرفون مدى سخاء الشيخ الجليل في الانفاق بالسر على المحتاجين وفك ضائقة المعسرين سواء بالصدقة أو الإقراض.
رحمه الله عاش معلما ومات معلما وستبقى سيرته من بعده معلما نستقي منها العبرة والحكمة ونترحم عليه بأن يغفر الله له ويرزقه منزلة في عليين مع الأنبياء والصديقين والأولياء والشهداء والعلماء والصالحين، اللهم آمين.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية