مسقط ـ العمانية:
ليس عليك أن تقف في حيرة من أمرك وأنت أمام أعماله، لتسأل لمن هي؟ فهويته واضحة منذ التعرجات الأولى على اللوحة.. مباشرة وقبل أن تتوغل في عمق اللوحة وتفاصيلها ستقول: هذا هو حسين عبيد. يقول أحد نقاده "إنك وأنت تتوغل في تعرجات اللون وتكسراته، وماسك أنت بقوة النظر بالمترابطات داخل العمل الواحد لديه.. تجد نفسك أنت المتلقي، أمام عمل متكامل متعدد الدلالات والاشتغال.. عبر تلاعب باذخ وماكر بآليات الإبداع". والمكر الذي يعنيه الناقد هنا هو شبيه بادعاء الموت عند الذئاب.. أليس موت الفنان / الكاتب / المبدع .. عرسٌ للقارئ / المشاهد / المتلقي.. والموت هنا انتهاء من اللوحة والمُنجز.. أما المكر والهروب من الموت.. فهو عبر جعل كل لوحة عنده، تمهيداً لما يمكن أن تتلقاه في لوحة تليها .. وسيلته الداهية والفنية، للارتباط الدائم مع الآخر.. الخارج عن ذات الفنان.. وهو كذلك دائم الحصول. اللوحة عند حسين عبيد قصيدة نثر باردة وغاصة في اليومي وتراتبياته.. قصيدة من زمن الحساسية الجديدة.. لا هي "مع" ولا "ضد".. إنها هي هي.. ولا شيء غير الصباغة.. وطفل ما لا يكبر داخلها. وبعيدا عن الجدار فإن الصحراء أيضا حاضرة في إبداع الفنان حسين عبيد، هي سفر في الجزيرة، لقد دون الرسام لذات الماء، واستنادا إلى الرمل، ونقاط التلاشي تفصح عن جفاف يدفع بالحياة نحو نهايتها، فلماذا الرسم، والمحور، هو استذكار أزمنة غائبة. هكذا يبدو إبداع حسين عبيد متنوعا، وباذخا ومتعمقا في كل ثيمة يطرحها أو يحوم حولها.. والتنوع من حيث الاشتغال وأدواته ومواده هو الفعل الطاغي على العمل/الفعل التشكيلي عند حسن عبيد إنك تتلمس عنده مواد الأرض السطحية منها والعميقة الصعب الوصول إليها، (التراب.. الحجر.. النحاس.. المعدن) داخل المنجز الواحد، في فنية بليغة الحس ومزهرة الإنتاج. أعماله تتكاثر في خيمة الحداثة لتلد رموزا، ودلالات، وصباغات، ومنجزات فنية وأشكالا تلوذ، عبر ثنائية القطيعة/والاتصال، إلى برج ما بعد الحداثة.. ذلك البرج العتيد والهش في آن.. الذي جعل لنفسه أسواراً عالية من مفاهيم تبتعد وتتقاطع مع الماضي في تجاذبات غامضة يصعب إدراكها إلا من خلال بحث وفهم ركيز كما يقول أحد نقاده. يقول الفنان حسين عبيد في حديث له : وردا على سؤال حول منابع الابداع في أعماله التشكيلية: منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وهاجسي الوحيد طرح موضوعات متصلة بالجدار. ذلك الجدار الذي وجدت فيه صلة بالجماليات العالقة في الذاكرة. أطرح من خلال هذا (الجدار) كل ما يخطر في الذاكرة من أفكار واشارات ورموز تجاوز حالة الوصف الى صيغ تأخذني لمسافات وعوالم لا أعلم اين ستكون استقرارها الابدي، وكل ما أعلمه أن هنالك هوائيات روحية/لونية تتسع باستمرار.. تنحاز الى إلحاق الفكرة بالصورة والولوج معها نحو أمكنة وأزمنة مبعثرة، ترغب من الفعل إحداث قنوات اتصالية جديدة بين الماضي والمستقبل. والجدار عند حسين عبيد حاضر بقوة .. وقد تنبه النقاد إلى هذا الحضور منذ فترة مبكرة. ويأخذ هذا الجدار اللون الأصفر للنحاس..واللون الأزرق للسماء.. السماء أفق التحليق كما هي في عمق رسالته الفنية. لكن هذا الجدار قد يأخذ أيضا اللون الأسود ذلك اللون الدائم الحضور في جل أعماله. والجدار في أعماله إذن هو النفس الأول لعملية التعبير التي عرفها الكائن، هو اللوحة الضخمة التي تَنقش عليها الحضارة وجودها الدائم، وهو كتاب تاريخ عمومي ومجاني .. صلة وصل أبدية بين الماضي والحاضر والمستقبل.. بوابة زمن للقاء الأجداد.. وذاكرة صلبة لتخزين جمالياتنا وذاكرتنا الحضارية. ويتحدث حسين عبيد عن المكونات الأساسية التي ساهمت في تشكيل رؤيتة الفنية فيقول: بالتأكيد ثقافة المكان ومفرداتها لها دور استثنائي في التأسيس الذي مر بتحولات بدءاً من الواقعية وانتهاءً بالتجريدية، وكغيري احاول ملامسة المحيط بحثاً عن نهاية لونية سعيدة أو الدخول في مناطق الرسم مغتسلاً بالمرئيات القريبة من ذاكرة المكان والطفولة. هذه الطفولة التي لا زلت حتى تاريخه احتفظ بذكرياتها وشطحاتها الحية، واجتهد قدر المستطاع التواصل معها لاستنطاق مناطق بحثية يمكن منها ايجاد طرائق فنية اقرب الى الذات.
ونسأل حسين عبيد حول ما بقي عالقا في ذاكرته ووعيه من قريته القديمة منطقة سداب في مسقط القديمة فيقول: هنالك العديد من الذكريات البنائية التي اعشقها واسعى من خلالها الى تأسيس لونيات مشابهة كتلك المختزلة في الذاكرة. هذه الذاكرة التى أعول عليها في بناء النسيج الفني والانتماء الاجتماعي المتصل بالمكان الاول (سداب).. أسعى عبر مناطقها الجمالية لإيجاد بلاغة جمالية مغايرة، يمكن منها اشعال الخيال بصياغات تتشابه مع تلك الازقة الرمادية وروائح الصور القديمة العالقة في الذاكرة التي تلوح بأوجاعها وتعمل على استعادة كل ما يمكن ان يجعل من القرائن مادة اختزالية، تضيف على الملونة بأشكال واشارات تتشكل وفق لغة مرئية جديدة، لا ترتجي المدح او الاطراء ولا تنظر من زاوية احادية، بل تنشئ مساحات شاسعة تسمح ان يطل منها الفنان على العالم الخارجي. واقتراباً من لوحة الفنان حسين عبيد، كيف تتشكل بداية من الفكرة وليس انتهاء بآخر ظلال من ظلالها يقول: اللوحة الفنية تبدأ بالفكرة وتنتهي بالانجاز.. والانجاز يأخذ بحد ذاته مسافات عينائية لا تخرج الا في لحظات حينما يكون الفنان في اشد حالات التوهج مع المادة البصرية.. في اغلب اعمالي الفنية لا اعتمد (الا نادراً) على وضع المخططات التمهيدية، بل اترك ذلك للحالة كيفما تتشكل، تتغير وفق القناعات، يلي ذلك الدخول في دراسة العمل الفني من كل الزوايا المتعلقة بالتكوين بحيث تكون مقبولة للبصيرة عند قراءة تفاصيلها. احيانا تأخذ اللوحة لدي فترة طويلة، تمر بمناطق غير متوافقة مع قناعاتي فأتركها وارجع لها في تواقيت مختلفة الى ان تختمر الرؤية كما اجدها تشبهني. وحول سريالية اللوحة وغموضها وبعدها عن الواقعي كما يرى بعض المتابعين ما يجعل الفن التشكيلي فنا نخبويا يقول الفنان: حقيقة لا اعرف من اين اتى هذا التحليل، وما اعرفه أن ثقافة الفنان هي المحك الاول في تأسيس بلاغته الفنية، ربما يكون للمتلقي قناعات او ان ثقافته الفنية غير متوافقة مع الطرح لهذا تجد ان هنالك فوارق بصرية وتحليلية تحدث وتنمو كالبرعم الناتئ من الشجرة . الفنان الواعي لا يقدم مرئية لإرضاء فئة او نخبة معنية، بل يطرح رؤية وعلى الاخر السعي الى استدراك ذلك عبر القراءة النوعية المتصلة بالفنون البصرية. وحول المشهد التشكيلي في السلطنة وموقع الفنان العماني من المشهد الإقليمي يقول: المشهد التشكيلي في عمان يقف على مد كمي على حساب النوعية، واعتقد اننا بحاجة ماسة الى التجديد في الفكر وتجاوز الاعتماد على فكر المؤسسات المقزمة للعمل الابداعي. ليس بخفي على أحد أن المشهد التشكيلي قبل عشر سنوات كان في أوجِهِ. أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال وهنالك اجتهادات فردية لبعض الفنانين ممن يسعون خارج نطاق التعامل المؤسسي الى إثبات كياناتهم الابداعية. وتحديد الموقع الذي يقع تحت بصيرة الآخر.