” .. علينا ان نكون من الشجاعة للاعتراف بأن بعضا ممن ينتمون للمؤسسات الدينية الرسمية يفكرون ويتحدثون بما يتجاوز ما هو مأمول من تلك المؤسسات في ترسيخ القيم والمثل والأخلاق التي تحث عليها الأديان. إن أول خطوات العلاج السليم هي التشخيص الصحيح، وتشخيص علة التطرف والإرهاب يجب ان يتسم بالصراحة والوضوح. نعم، لدينا الكثير مما يشجع على التطرف والعنف وتشويه الدين، وبعضه مما نتحسب حساسية من التطرق له أو الاعتراف به.”
ـــــــــــــــــــ
لا شك أن الهجمات المتزامنة تقريبا يوم الجمعة الثاني من شهر رمضان، في فرنسا والكويت وتونس، لم تكن عشوائية التنظيم والتوقيت وبالتالي لم تخطئ تحقيق الأهداف. أهداف الإرهاب واضحة تماما ولا تحتاج تحليلات ولا تقعير تنظيري من قبل متفلسفين بغرض التبرير أو "إمساك العصا من المنتصف" كما يقال. فالإرهاب هو استخدام القوة تجاه المسالمين بغرض فرض أجندة سياسية أو ما شابه. وما كان قتل السائحين بدم بارد في تونس وقتل المصلين الصائمين في المسجد بالكويت إلا رسالة حقد وكره ووحشية من جماعات ظلامية تستهدف العودة بالإنسانية عشرات القرون للوراء. هذا ما تمثله "دولة الخلافة" الدموية التي يراد إقامتها على أشلاء المسالمين من المسلمين قبل غير المسلمين. وبدرجة أخرى ما تسعى كل ما تسمى جماعات "الإسلام السياسي" لتحقيقه سواء بالقتل والذبح أو بالوصول للسلطة في انتخابات.
الآن، أكثر من اي وقت، علينا الاعتراف بأن تلك "بضاعتنا ردت إلينا" وأن تلك نتيجة سياسة "الاحتواء" واعطاء الفرصة للمتشددين "حتى لا ندفع بهم إلى العمل السري تحت الأرض". ولست ادري أي "تحت" أكثر من هذا الانحطاط الذي وصل إليه هؤلاء! نعم، من المهم إعادة النظر في طريقة تدريس الدين في المدارس والتركيز على ما يزرع القيم والأخلاق وتنقية المناهج من كل ما له علاقة بتاريخ صراعات السلطة والنفوذ وممارسات التشدد والتطرف والمغالاة. فمن شأن ذلك ان يقي من تبقى من الشباب والأجيال الجديدة شر الشطط واتباع طريق جماعات الإرهاب. لكن الأهم والأخطر هو ما تقوم به بعض المساجد ومن يلقبون بالشيوخ أو الدعاة ممن ينشرون أفكار التخلف والجهل. حسنا فعلت تونس باغلاق عشرات المساجد التي تعد يؤر تفريخ للإرهاب إثر مقتل عشرات السائحين على يد إرهابي شاب في سوسه.
سبق أن قامت مصر بجهد مماثل في التسعينات بمحاولة ضم الكثير من المساجد الأهلية إلى سلطة وزارة الأوقاف، وذلك بعد زيادة عدد المساجد والزوايا التي أقامها الناس ويستخدمها دعاة متشددون يهيئون الشباب للجماعات الإسلامية التي خاضت صراعا مسلحا مع السلطات المصرية. ولم تكن تلك المحاولة جذرية تماما لأسباب عديدة منها حساسية التعامل مع المساجد في مجتمع انتشرت فيه مظاهر تدين كثيف إضافة إلى أن السلطة ذاتها تستخدم خطابا دينيا في مواجهة معارضيها من جماعات "الإسلام السياسي". وما لا يريد أحد الاعتراف به ان مؤسسات الدولة الدينية بها من الشيوخ والدعاة من يقترب من التشدد وأفكار التخلف التي تلام في تهيئة الشباب للتجنيد إرهابيين.
أما الآفة الكبرى التي أضيفت للمدارس والمساجد فهي ما تسمى "الفضائيات الدينية" التي انتشرت بالعشرات في السنوات الأخيرة وهي في أغلبها منافذ إعلامية تبث الكراهية الدينية بين الأديان وبعضها، وحتى بين المذاهب في الدين الواحد. هذه القنوات ليست "إعلام ديني" كما توصف، بل هي في أغلبها منابر تطرف وتخلف تشوه عقول البشر وتضر الدين قبل أي شيء. ومرة أخرى لا يجب أن يحسب الموقف منها في سياق دعاوى "حرية الفكر" ومواجهة الرأي بالرأي إلى آخر تلك الدعاوى التي وإن لم تبرر للتطرف والعنف فهي تمالئه ولو بحسن النية. وإذا كنا نعيب على الغرب عنصريته المستترة تجاه الآخر التي تجعله يتغاضى عن مثالب تطرف في مجتمعاته، فحري بنا ألا نقع في الخطأ ذاته. وهنا نشير إلى أن إعلاء قيمة القانون واحترامه هي التي تحمي كل تلك المثل والقيم في الغرب، ونتشدق بها عندنا لكننا نقفز عليها في الواقع العملي.
ما الضرر في التعامل مع منافذ الإعلام التحريضية في إطار قوانين السلم الاجتماعي؟، وما يحرض منها على كراهية دينية أو فتن طائفية أو مذهبية يتم غلقه نهائيا وحظر بثه أو نشره. ولماذا لا تخضع دور العبادة لقوانين واضحة صريحة تنظم مهمتها الأساسية أنها أماكن للعبادة الحرة دون أن تكون مدارس تطرف وعنف؟ ليس هذا فقط، بل علينا ان نكون من الشجاعة للاعتراف بأن بعضا ممن ينتمون للمؤسسات الدينية الرسمية يفكرون ويتحدثون بما يتجاوز ما هو مأمول من تلك المؤسسات في ترسيخ القيم والمثل والأخلاق التي تحث عليها الأديان. إن أول خطوات العلاج السليم هي التشخيص الصحيح، وتشخيص علة التطرف والإرهاب يجب ان يتسم بالصراحة والوضوح. نعم، لدينا الكثير مما يشجع على التطرف والعنف وتشويه الدين، وبعضه مما نتحسب حساسية من التطرق له أو الاعتراف به.
لا يعني ذلك أن عوامل أخرى كثيرة تدفع الشباب نحو جماعات الإرهاب وأفكار التطرف والعنف، عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية. لكن من الخطأ أن نقدم كل تلك العوامل على العامل الديني (أو ما يوصف بأنه ديني وما نظنه من الدين في شيء)، لأننا نخشى من جمهرة المتدينين البسطاء. فذلك هو أو ل الخطأ في التشخيص الذي يجعل العلاج بلا فائدة. ومن المهم أيضا ادراك أن العلاج يستهدف وقاية الأجيال التي لم تفسد بعد، أما من انخرط في العنف والتكفير والإرهاب فلا جدوى من "مناصحته" أو "هدايته" أو "فتح أبواب العمل العام أمامه ليتخلى عن العنف" كما يروج من يعتبرون أنفسهم مصلحين وسطيين.

د.أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري