إعداد :محمد عبد الظاهر عبيدو
إن اللباس من أهم الحاجات الأساسية للإنسان بعد الطعام، ومن هنا كانت صناعة الملابس والتفنن فيها من أوسع الصناعات لأن ضرورة الإنسان إلي ما يستر به بدنه وما يقيه البرد والحر قديمة، ولهذا نرى القرآن الكريم اهتم بها اهتماما لا يغض الطرف عنها ، فقد استوحى القرآن الكريم من هذه الصناعة معاني بديعة ,وذكر موادها, كما ذكر مصنوعاتها, وذكر عدة أنوع من المصنوعات النسيجية مما يقوم دليلا قوياً على أهمية هذه الصناعة من المنظور القرآني ونبدأ بالكتابة عن هذه الحرفة وضروريتها للإنسان في متاعه وزينته وعلى أنها سبيل للرزق, فأقول النسيج حرفة ضرورية احترفها الناس منذ القدم لإيجاد الأقمشة الخاصة بالملابس كما أنها ضرورية لوجود حاجيات أخرى من الأثاث كبيوت الأعراب (الخيام) أو البسط وما إلى ذلك من بعض الضروريات وعند دراستنا للغزل والنسيج في بلاد العرب والحجاز أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وقبله فقد ذ كرت مصادر التاريخ أن صناعة النسيج والخياطة كانت عامة في البلاد العربية والإسلامية. والعرب والمسلمون لم يقتصروا في تشجيع هذه الصناعة , وإنما أنشأوا مصانع , وحصلوا على مركز القيادة في هذه الصناعة , وسيطروا تماما علي تجارة الحرير خاصة ولعل اليمن كانت لها حرز السبق والفضل من بين الدول العربية في تقدم هذه الصناعة. فلا بد من معرفتنا لإمكانيات تلك البلاد من توفر المواد الخام للنسيج في بيئتهم, إلى توافر الأيدي العاملة التي تقوم بعمل النسيج , وإلى توافر الخبرة الفنية والمهارة اللازمة لهذه. وبدراسة سريعة للبيئة في منطقة الحجاز في محاولة لمعرفة مدى توفر المواد الخام نجد ان (الصوف) متوفر بكثرة نظراً لوفرة الثروة الحيوانية في المنطقة وبالتالي كان لا بد من الاستفادة من هذا الصوف , فقام الناس بغزله والاستفاده منه حسب إمكاناتهم المتوفرة وحسب خبراتهم البسيطة , وقد كانت النساء في الغالب هن اللائي يقمن بعملية الغزل أكثر من الرجال نظراً لتفرغهن, وربما كان الرجال يعيبون على بعضهم عملهم بالغزل فيكلونها إلى النساء, وقد يكون لانشغال الرجال في أعمال أخرى دور في ترك هذه العملية للنساء, وقد كانت النساء يقمن بالنسيج في المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد في حديث البخاري: (عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : جاءت امرأة ببردة ... قال : أتدرون ما البردة ؟ فقيل له : نعم هي الشملة منسوج حاشيتها , قالت يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها , فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فخرج إلينا وإنها ازاره فقال رجل من القوم يا رسول الله أكسنيها فقال نعم , فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه فقال له القوم ما أحسنت سألتها أياه لقد علمت أنه لا يرد سائلا , فقال الرجل والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت, فكانت كفنه .
وقد وضع البخاري باباً لهذا الحديث سماه ( باب ذكر النسّاج ) ويدل هذا الحديث على إجادة بعض النساء للنسيج في المدينة وأنهن كن يقمن بذلك وينتجن بعض الملبوسات المنسوجة.
ومما يؤكد الاستفادة من الأصواف ووجود أناس يعملون بها قوله تعالى في سورة النحل / آية 80 ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ))
ويستفاد من الصوف بنسجه بواسطة أداوت خاصة اهمها (المِغزَل) وهو ما يفتل به الصوف بحيث يحول إلى خيوط صوفية ثم تنسج فيما بعد , وقد ورد ذكر ( الغزل ) في قوله تعالى : (( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمةٌ هي أربى من أمةٍ إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)) سورة النحل / آية 92
وهذه الآية تدل على معرفة المخاطبين بالغزل وتدل على أن الغالبية في الغزل للنساء فكانه يقول: (إنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً ) , ويرجح وجود رجال يجيدون الحياكة والنسيج بدليل ما ورد عن سنان بن سعد رضي الله عنه ( قال : حكت للنبي صلى الله عليه وسلم جُبة من صوف وجعلت حاشيتها سوداء فلمّا لبسها قال : انظروا ما أحسنها وما أبهجها فقام إليه أعرابي فقال يا رسول الله هبها لي, قال : فكان إذا سُئل شيئا لم يبخل به فدفعها إليه وامر أن تحاك له جبة أخرى فمات وهي في المحاكة ) وقد يكون الرجل حاك الجبة للرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وقد يكون اوصى أحدا بعملها لكي يقدمها هدية للرسول صلى الله عليه وسلم .
لكن أياً كان الأمر فالنتيجة واحدة وهي وجود مهنة النسيج والحياكة في عصر الرسول في الحجاز , وقد وردت بعض الآثار تدل على أن بعض الصحابة كان يعمل الخز وهو نسيج يعمل من (ابريسم) وصوف وذكر من هؤلاء الزبير بن العوام وعمرو بن العاص.
وقد وردت عدة أحاديث ترغّب المسلمين في تعليم فتياتهم ونسائهم الغزل حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( نعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل ) وقد كانت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تغزل باستمرار فقيل لها عن ذلك فقالت إن المغزل يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس وقد بلغني ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال أعظمكن اجراً أطولكن طاقة , وكان الرسول يحثّ النساء على شغل فراغهن بالغزل .
وقد عرفوا سقي النسيج بمادة خاصة تكسبه القوة والصلابة وتسمى (الخَزِيرَة) وهي كالحساء من دقيق ومواد أخرى , كما ان العرب وضعوا أسماء لكل ما يتعلق بالغزل والنسيج من أدوات وسموا أجزاء هذه الأدوات , فمنها مثلاً ( الحِفّ ) وهي الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب , و ( الصنّار ) وهي رأس المغزل و ( النيْر ) الخشبة المعترضة التي في الغزل , و( المداد ) عصا في طرفها صنارتان يمدد بها الثوب .
كما ان هناك الكثير من أسماء أجزاء معينة في ادوات الغزل والنسيج كانت معروفة لدى العرب عموماً في مختلف البلاد قد يطول ذكرها فيما لو أستعرضناها وهي على أية حال مبثوثة في القواميس والمعاجم اللغوية , إلا أنها تؤكد لنا بالدرجة الأولى تمكّن العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام من هذه الحرفة , إلا أنها إذا قارناها ببلدان أخرى , كانت في الحجاز ضعيفة إلى حد ما , إذ لا مقارنة بين الحجاز واليمن مثلاً في مجال النسيج في تلك الأيام ومع ذلك كانت قائمة في الحجاز وتسد بعض الحاجات الاجتماعية فقد كانت تسد الحاجة لبعض الملبوسات البسيطة وخصوصاً عند الأعراب الذين لم يكونوا يهتمون بملابسهم كأهل الحضر , فالبادية من طبيعتهم الخشونة فكانوا يستعملون الأصواف أكثر من غيرهم ,إضافة إلى ذلك فقد كان الصوف غير المصنع يستفاد منه في أشياء أخرى كالفرش والوسائد , فقد بعثت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفراش محشو صوف , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة ردّيه , ( مخافة أن ينام عن صلاة الليل ) نتيجة لليونة الفراش.
كما ان صناعة الحبال كانت من الصناعات الموجودة بكثرة في الحجاز سواء عند البادية أو الحاضرة ولم يكن يستغنى عنها في الحّل والسفر و ( الحبال ) كانوا يصنعونها من الصوف والجلود كما انهم يستخدمون بعض الأشجار والنباتات لصناعة الحبال وهي ما يسمى ( المسد ) وقد ورد في تفسير المسد في قوله تعالى (( وامرأته حمالة الحطب , في جيدها حبل من مسدٍ )) , أن المسد شجر يدق كما يدق الكتان فتفتل منه الحبال .
كما ان الأعراب في البوادي كانوا بحاجة إلى بيوت يسكنونها وهي في الغالب مصنوعة من الشعر او الجلود وهي على أنواع منها ( الخِباء ) ويصنع من صوف , و ( البِجاد ) ويصنع من وبر , و ( الفسطاط ) وهو الكبير من بيوت الشعر , وهذه البيوت التي من الصوف تحتاج إلى عمليات طويلة من الغزل والنسيج والخياطة بطريقة معينة حتى يمكن استخدامها والاستفادة منها ولا يزال بعض الأعراب في البوادي حتى الان يستخدمون بيوت الشعر المصنوعة من الصوف , كما انهم كانوا يصنعون بعض الأثاث من الصوف كالبسط والسجاجيد , وكانت بدائية بسيطة تنسج مما يتوفر من أصواف الماعز وغيرها من الأصواف الخشنة , وقد كانت البسط معروفة في المدينة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم , وكان الرسول يضطجع على حصير فيؤثر في جلده فقال له عمر بن الخطاب بأبي وأمي يا رسول الله ألا أذنتنا فنبسط لك ( أي نضع لك البسط ) فقال صلى الله عليه وسلم : ما لي وللدنيا )
المفهوم اللغوي لكلمة النسيج :
المعني اللغوي لكلمة النسيج يدل علي وصل شيء بشيء آخر فالنسج ضم الشيء إلي الشيء .فنقول نسجه ينسجه نسجا فانتسج ,ونسجت الريح التراب تنسجه نسجا ,سحبت بعضه إلى بعض .
ويمكن أن نستنتج من الدلالة اللغوية لكلمة النسيج مفهومها الاصطلاحي العام وهو :عبرة عن تناول الخيوط المصنوعة من الألياف وغيرها لصناعة الأقمشة بمختلف أنواعها ,وتتم عملية النسج بضم السدي إلي اللحمة
والسدي هي :خيوطنسيج الثوب التي تمتد طولا ,وهو خلاف اللحمة وهي التي تمتد عرضا.وقد تطورت صناعة النسيج في العصر الحاضر حتي غدت علما مستقلا ,ودراسة لها ملامحها وخصائصها .
وإذا نظرنا في صفحات القرآن الكريم وحديثه عن هذه الحرفة فإننا نجد أنه وردت فيه ألفاظ تدل علي النسيج ومصنوعاته ,وهي نوعان ,ألفاظ استعملها القرآن الكريم في معانيها الحقيقية , وألفاظ لم يستخدمها في معانيها الحقيقية وإنما استعار منها معان أخرى.
والألفاظ التي جاءت في معانيها الحقيقية هي :(فرش),(دفء) ,(أثاث). والكلمة الأولي وهي فرش لها في اللغة عدة معان من أشرها بسط الثياب , وكذلك تعني الزرع ,وصغار الإبل التي تفرش للذبح .ولقد وردت كلمة فرش في القرآن مرة واحدة بهذه الصيغة فقال تعالي :(ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) .ولقد وردت من هذه الاداة صيغ أخرى مثل الفرش بضم - الفاء والراء ـ بصيغة الجمع وقد جاءت في موضعين في القرآن في سورة الرحمن حيث قال تعالي :(متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان) ,وفي سورة الواقعة كذلك فقال تعالي )وفرش مرفوعة). ووردت مرة واحدة بصيغة الفعل في سورة الذاريات حيث قال تعالي :(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون *والأرض فرشناها فنعم الماهدون )
فنحن نرى أن كلمة الفرش في الآيات الأخيرة,عبارة عما يبسط مما يجلس عليه ويتمهد ,ومن هنا فالقرآن في هذا صريح في كر صناعة النسيج بكلمة الفرش .
وأما كلمة ـ دفء ـ التي تعني خلاف البرد .قال الجوهري والدفء :السخونة ,والاسم الدفء بكسر الدال وهو الشيء الذي يدفئك والجمع الأدفاء . وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة النحل فقال تعالي :(والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) فالله تعالي في هذه الآية يمتن علي عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ,وجعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يكتسون ويفترشون , ومن ألبانها يشربون ,ومن لحومها يأكلون ,والدفء في الآية هو ما استدفئ به من الوبر والصوف والشعر لأنه يتخذ منه الملابس الشتوية والأكيسة والأخبية وغيرها وقد ذكر الطبري عن مجاهد ان الدفء :لباس ينسج ,وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الدفء .الثياب ,وعن ابن زيد أنه قال .دفء اللحف التي جعلها الله منها .واللحف جمع لحاف وهو ما يلتحف به الإنسان للدفء من عباءة وكساء ونحوهما .
وخلاصة القول: إن كلمة الدفء من ألفاظ النسيج الذي هو مهم للإنسان ومنفعته وحاجاته الأساسية ومن هنا ذكره القرآن إلي جانب ذكر المنافع وذلك لكونه من أعظم المنافع حتي يشكر الإنسان ربه الذي خلقه وخلق له ما ينفعه في حياته ويسعده ويستر به بدنه ويزين به بيته فسبحان من علم آدم الأسماء كلها .

.. يتبع في مقال قادم بإذن الله تعالى.