[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
”رحلة قصيرة وموجزة في خضم مشهد حياتي يستحق التأمل، وبرغم قصر الرحلة وإيجازها إلا أنها تحمل الكثير من الصور الغنية حول مفهوم السعادة التي ينظر إليها إنسان ما من زوايا مختلفة تصاغ وفقا لشكل الحياة التي يحياها ونوع الآمال والأحلام التي تراوده، وحول قسوة الحياة ومتطلباتها التي يختلف مفهومها وتتعدد صيغها كذلك من إنسان إلى آخر...”
ــــــــــــــــــ
رابعا : موقف إنساني يستحق الملاحظة والتدبر
اتسمت النظرة الأولى بالاعتيادية في التقاطها العابر للمشهد، فقد كانت طبيعية وسطحية تدخل في جملة ما يراه البصر في مجاله في الزمان والمكان من أجسام ومواقف وأحداث عابرة وأشياء كثيرة ومتنوعة تلتقطها عدسة العين دونما قصد موجه ودون أن تثير الانتباه أو تدعو إلى التركيز والقراءة المتمعنة في بداية الأمر، ذلك قبل أن تتحول إلى نظرة متفحصة ومتعمقة توغل في ملاحظة التفاصيل الدقيقة وفي متابعة المشهد بكامل دقائقه عندما تكتشف بأن المشهد يثير الأسئلة فعلا ويحرك المشاعر ويستحق التركيز والملاحظة والتفكر، خاصة عندما يكون المشهد حيا وملتقطا من معترك الحياة وما أكثر مشاهدها وأغنى صورها ومضامينها لمن يتفكر ويعطي للفائدة من تلك المضامين حقها، حراكا معروفا يحصل للإنسان خلال رؤيته أو ملامسته للكثير من المشاهد والقصص المؤلمة والمحزنة أو المثيرة للطرب والسعادة والعجب التي تهز الكيان الإنساني في أعماقه وهو ما شعرت به وأنا غارق في متابعة تفاصيل المشهد الذي سوف أسوق تفاصيله الدقيقة ... ففي العاصمة التايلندية بانكوك المزدحمة بالبشر وبالمواقف والدروس والعبر، وفي المقهى الذي كنت أحتسي منه مشروبا ساخنا يقوم سوق طويل في أسفل المقهى يمتد إلى ما لا نهاية يتألف من عشرات المحلات المتحركة التي ما تلبث بعد انتهاء فترة عملها أن تتلاشى وتختفي من الوجود، اختفاء لا يدرك صيغ عناءه وتفاصيل مكوناته وآلية نشوئه وتلاشيه المتسوق والمتنزه والمار أثناء عمليات المرور السريع والتسوق العابر والرؤية السطحية، وقد صادف في مساء متأخر من الليل ومن خلال موقعي في المقهى الذي أتاح لي رؤية واضحة لما يحدث في عمق السوق اكتشفت أنه ومن بضع عربات متحركة يتشكل هذا السوق الكبير الذي ينشط في حركته التجارية وفي نشاطه السياحي، وتقوم الفكرة على جملة من المكونات تتمثل في عربة يد تحمل صندوقا لتخزين البضائع والمقومات الأخرى التي يقوم عليها المحل التجاري، بضع أسياخ حديدية وأرفف تمثل أعمدة وقاعدة المحل، حبال وشبابيك لتثبيت الأسياخ والأرفف، إنارة مع محول كهربائي، بضاعة عبارة عن ملابس وكماليات، وأخيرا غطاء بلاستيكي لتغطية البضاعة من المطر والعوامل الجوية الأخرى، تبينت لي كل هذه التفاصيل والمعلومات خلال متابعتي لعملية تفكيك إحدى المحلات ولمست حجم الجهد المبذول والمعاناة التي تتطلبها عمليات التثبيت والتفكيك ومقدار الوقت الذي يحتاجه العمل، صبر وتأن ومعاناة ودقة، وانصراف كلي نحو إنجاز ذلك العمل المضني الذي يمر بعدة مراحل بدء من حمل البضاعة من الأرفف إلى العربة مرورا بتفكيك الأسياخ والمشابك واحدا بعد الآخر ووضعها بجنب البضاعة انتهاء بفصل التيار الكهربائي وحمل الإنارة والمحول إلى العربة وأخيرا تغطيتها بغطاء بلاستيكي يتطلب كذلك حبالا لربطه وضمان تثبيته قبل أن يبدأ بتحريك عربته والانصراف إلى مكان إقامته، وقد استمرت عملية التفكيك وحمل المكونات إلى العربة وتغطيتها أكثر من ساعة كان صاحبها منشغلا فكرا وبدنا بعمله درجة جعلته لا يدرك شيئا مما يدور حوله من أصوات صاخبة وحركة نشطة ولا يلتفت يمنة ولا يسرة لتبين من يراقب عمله ويطلع على جهده ويكتشف تفاصيل الصورة التي يقوم بإخراجها .. فلا يهمه من الأمر إلا إنجاز عمله وضمان أن يخرج من يومه بمكسب ولو بسيط لإعالة أسرته. رحلة قصيرة وموجزة في خضم مشهد حياتي يستحق التأمل، وبرغم قصر الرحلة وإيجازها إلا أنها تحمل الكثير من الصور الغنية حول مفهوم السعادة التي ينظر إليها إنسان ما من زوايا مختلفة تصاغ وفقا لشكل الحياة التي يحياها ونوع الآمال والأحلام التي تراوده، وحول قسوة الحياة ومتطلباتها التي يختلف مفهومها وتتعدد صيغها كذلك من إنسان إلى آخر وفقا لعوامل وظروف كثيرة مادية وتعليمية وعملية ومصادفات يومية تحدث للإنسان ... فهذا الذي يستغرق النهار كله وجزءا غير قليل من الليل يبني محله ويفككه بعد ذلك في مسلسل درامي يومي ويسعى بطرق مختلفة لكي بيع جزءا من بضاعته، قد ينجح في ذلك وقد يفشل ويترتب على نجاحه وفشله آثار كثيرة ترتبط به وبأسرته في يومه ذاك الذي يعتمد على الشطارة والخبرة ويقضي ما تبقى من وقته القصير في قضاء غفوة قد يجدها وقد تمنعه الهموم وضعف الحصيلة والتعب والتفكير ... من تحصيلها، له رؤيته لمفهوم السعادة ولشكل الحياة تختلف عن ذلك الذي يعيش في بحبوحة من العيش، فلسفة عميقة لها جذورها وأساتذتها ونظرياتها مفهوم الحياة ضحكها وابتسامها في وجه إنسان ما وكآبتها وتكشيرها في وجه إنسان آخر، هم ومشقة وألم، سعادة وازدهار وسرور، مشاعر وتساؤلات ورؤى وأفكار تأخذ بالإنسان إلى طرق شتى تصاغ الأسئلة وتتنوع الأجوبة ويظل الكثير منها في نهاية المطاف مبهما وبدون إجابة مقنعة ولكنها مشاهد كفيلة بتقديم دروس بسيطة للإنسان تضمد الكثير من جراحه وتتيح له إجراء المقارنات الإيجابية وتلاوة بضع عبارات ابتهالية أخيرا فيها الشكر والثناء للخالق على ما أعطى من نعم كثيرة.