تعتبر القراءة نشاطا محوريا في تقدم الإنسان والحضارة، فالعلوم لا يمكن أن تحفظ وتنقل وتفهم وتدرس وترصد إلا عن طريق القراءة وأدواتها المختلفة، فلا توجد حضارة تقدمت وارتقت وحفظت إلا بالعلم الذي أداته الأساسية القراءة، ولذلك تجلت حكمة الباري سبحانه في أن يكون أول أمر من أوامر الرسالة الخاتمة هو الأمر "اقرأ" الذي نزل على سيدنا محمد في ظروف خاصة وتوقيت خاص ومكان خاص، ليلفلت الحق سبحانه وتعالى نظر الإنسان إلى أن نشاط القراءة هو مفتاح العلم ومفتاح التغيير ومفتاح العبودية الحق له جل وعلا، وأن هناك عصرا جديدا قد أشرق، وهو عصر قوة المعرفة وقوة العقل والإنسان، بعد أن كان البشر يعتمدون على قوى طبيعية ناضبة.
واليوم تعيش البشرية في عصر جديد وثورة جديدة، وهي ثورة الإبداع والابتكار، وملاحقة هذا العصر الجديد لا يكون إلا بامتلاك ناصية العلم والمعرفة، فأي فرد أو أمة تنشد التقدم والريادة في عصر الإبداع فلا سبيل لها إلا المعرفة، والمعرفة مفتاحها القراءة وما يتبعها من بحث ودراسة وتحليل واستنتاج وتفكير.

إن تقديم القدوات العالية في النجاح للشباب والناشئة له أثر عميق في تربية هؤلاء الشباب والناشئة على الطموح ومعالي الأمور والسعي إلى اتباع مناهج تلك القدوات والنماذج. ومن هذا المنطلق جاء اختيار شخصية الإمام نور الدين السالمي لتقديمه كقدوة في الهمة للقراءة وطلب العلم لتشجيع الناشئة والشباب على حب القراءة والارتباط بها. وكان من أبرز أسباب اختياري لتلك الشخصية لتقديمها قدوة في القراءة والتعلم:
- أنه شخصية معاصرة وليست بعيدة، فالإمام السالمي توفي قبل 100 عام تقريبا، فهو الأقرب زمنا إلى جيل اليوم.
- أنه ابن المجتمع، فالإمام السالمي ولد ونشأ في أسرة عمانية ومجتمع عماني وظروف عمانية، فهو الأقرب إلى بيئتنا وقيمنا وتقاليدنا.
- أن الإمام السالمي مر بظروف صعبة في مشواره العلمي، حيث كانت الحالة العامة تعاني من شظف العيش ومشقة الحياة، بالإضافة إلى فقد الإمام لبصره منذ صغره، ومرور أسرته بظروف صعبة. مع قلة مدارس العلم في ذلك الوقت.
- أن الإمام السالمي له آثار علمية واجتماعية وثقافية فذة وعظيمة لا تزال حاضرة في ذاكرة المجتمع العماني.
- تميز الإمام نور الدين بالتجديد والإبداع في المنهج العلمي. وعمق الدراسة والبحث في القضايا العلمية المختلفة.

الإمام نور الدين السالمي هو أبو محمد عبدالله بن حميد بن سلوم السالمي. ولد سنة 1284 هجرية في بلدة الحوقين في الباطنة. ثم انتقل مع أسرته إلى بلدة الخبة بالسويق، ثم انتقلت أسرته إلى الرستاق، وبدأ مشواره العلمي في الرستاق، ثم أكمل رحلته العلمية في الشرقية مع الأمير العلامة صالح بن علي الحارثي، وعاش بقية حياته هناك.
ولقد ولد الإمام ونشأ في ظروف محلية صعبة، ففي الجانب السياسي كانت البلاد تعاني من التفرق والنزاعات القبلية، وفي الجانب الاقتصادي كانت حالة الركود تخيم على المدن العمانية المختلفة لأسباب داخلية وخارجية عدة، وفي الجانب الاجتماعي كان المجتمع يعاني من الجهل وانتشار الأمراض وهجرة كثير من السكان إلى خارج البلاد، ومن الناحية الثقافية انحسرت مدارس العلم وانتشر الجهل والركود الفكري. فولد الإمام نور الدين السالمي في ظل تلك الظروف، فقام عليه والده وعلمه القرآن الكريم، ثم حاول أبوه في البدايات أن يرسله إلى حلقات العلم، ولكن الشاب الصغير كان عازفا عن طلب العلم حينها. ثم انتقلت أسرته إلى السويق، وبعد فترة قصيرة عادت الأسرة إلى مدينة الرستاق.
وفي مدينة الرستاق أعاد الوالد محاولة ترغيب ولده في طلب العلم، فتأثر الولد بالمجتمع المحيط الذي كان فيه الصبيان يذهبون إلى حلقات العلم، فرغبت نفسه في ذلك. فذهب الإمام ليجلس في مجالس العلم، وكان قد احتاج في بداية تعلمه للغة العربية إلى كتاب "الآجرومية"، ولكن أباه لم يكن يجد ثمن ذلك الكتاب، وبقي حتى جمع أبوه سعر الكتاب واشتراه له. وقد بدأ الإمام في الرستاق بمجالسة كبار العلماء فيها والتعلم على أيديهم والتشرب من أخلاقهم وسجاياهم، فبدأ نجمه في طلب العلم يبزغ وعوده يشتد، حتى أحبه شيوخه وقدروه، وقد تتلمذ في مدرسة الرستاق على يد الشيخ راشد بن سيف اللمكي والشيخ ماجد بن خميس العبري. وفي الرستاق لاحظ العلماء نبوغه وذكاءه وهمته وتوسموا فيه خيرا، وتوقعوا له شأنا عظيما في المستقبل، وشهد له شيخه راشد بن سيف اللمكي فقال: "تعلمت مع الشيخ ماجد بن خميس العبري حتى صرت أوسع منه علما، وأخذ العلم مني الشيخ عبدالله بن حميد السالمي فصار أوسع مني علما".
وبعد أن أخذ الإمام علم أهل الرستاق ووسع ما عندهم طمحت نفسه إلى المزيد من العلم، وخاصة في علم أصول الفقه، فسمع عن الشيخ العلامة صالح بن علي الحارثي في الشرقية فوجه وجهته إليه، وسافر طالبا للعلم، ووصل إلى الشيخ صالح فأعجب الشيخ صالح به وبنباهته وعمقه، حتى قال لجلسائه: "جاءنا اليوم ولد سالمي من الحوقين يلتهم العلم التهاما، ولئن عاش فسيكون له شأن". وقربه الشيخ صالح وأعتنى به، وعلمه العلم النظري، والعلم التطبيقي العملي. وهناك في الشرقية ذاع صيته وقصده الناس، وشد الطلاب إليه الرحال من مختلف الديار العمانية، فأحدث نهضة علمية واجتماعية وجدد الدين وأصبح علما من أعلام الأمة في عمان وخارجها.

وفي ميدان القراءة كان الإمام مولعا بالتعلم، فقد ذكر بعضهم أن الإمام كان يشتغل بكتابه في وقت الفسحة من الدرس حينما كان زملاؤه ينفرجون من المجلس للراحة، وكان شيخه يلاحظ ذلك منه. وفي إحدى المرات رآه شيخه يقرأ كتابا أعلى من سنه، فأشفق عليه ونبهه، فقال الإمام لشيخه بأنني أستطيع أن أقرأ وأشرح أيضا، فشرح الإمام فأعجب شيخه بشرحه. وذكر عنه أيضا أنه كان يحب المكوث في الخلوات للقراءة والتعلم. وكان يخاطب العلماء ويباحثهم فيما يقرأ وهو لم يبلغ العشرين بعد. ومن كثرة اطلاعه وبحثه ألف منظومته بلوغ الأمل في اللغة وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره. وذكر عنه بأنه أراد الحج فأهدي مبلغا ماليا من السلطان فيصل بن تركي، فذهب إلى مكة واشترى بالمبلغ كله كتبا من مكة المكرمة.
إن أمثال هذه القدوات العالية في الكفاح العلمي والقرائي تعلمنا كثيرا من الدروس والحكم الحياتية التي إذا أخذنا بها واستفدنا منها فسنصل –بإذن الله تعالى – إلى درجات متقدمة من النجاح العلمي والحياتي. وإن من أهم تلك الدروس والحكم التي نتعلمها من مسيرة الإمام نور الدين السالمي في التعلم والقراءة ما يلي:

- أن الظروف مهما كانت شاقة فإنها لا تحول بين صاحب الهمة وبين تحقيق هدفه وغايته، فبرغم الظروف الصعبة التي كانت في عصر الإمام السالمي إلا أنه شق طريقه في ميدان العلم وأصبحا رائدا من رواد الحركة العلمية برغم ضعف الإمكانات. فعلى الشاب أن لا يعتذر بظروف الوقت أو العمل ويهجر القراءة وتنمية الذات بحجة عدم توفر الفرص الملائمة، بل على كل واحد أن يصنع بنفسه الفرصة ولا ينتظرها.
- أن الإعاقة البدنية لا تمثل عائقا أمام وصول الإنسان إلى ما يريد. فرغم أن الإمام فقد بصره منذ الصغر إلا أن ذلك لم يقعده عن مراده. وكم نشاهد اليوم من شبابنا الأخيار أصحاب الهمم الذين لم تحول إعاقاتهم المختلفة بينهم وبين الإنتاج والإبداع ونفع المجتمع. والأمثلة في واقعنا العماني كثيرة.
- للأسرة دور في التأثير على اتجاهات أبنائها، فهي مسؤولة عن توجيههم الوجهة السليمة نحو التعلم والقراءة والبحث وحب العلم. فالإمام السالمي تأثر بتوجه أسرته العلمي والديني المحافظ، فسار في نفس الطريق. وهكذا ينبغي لأسرنا أن تهتم بالتوجيه الفكري والسلوكي والروحي لأبنائنا الوجهة الصحيحة التي تنتج رجالا ونساء صالحين منتجين.
- أن ربط الناشئ بالعلماء والقدوات الصالحة له دور كبير في إعداده وتربيته وتوجيهه. فالإمام السالمي تأثر من خلال احتكاكه بالعلماء وملازمتهم، وتأثر بالمجتمع المحيط بعد أن كان غير راغب في العلم. وشبابنا وفتياتنا اليوم بحاجة للتواصل والاحتكاك بالعلماء والخبراء والمبدعين والعصاميين من أجل أن يتشربوا مناهجهم في النجاح، بدلا من ترك شبابنا وفتياتنا لقمة سائغة بيد الأفكار الدخيلة وأصحاب السوء والقدوات المنحرفة التي تضر الدين والوطن.
- أعظم استثمار وتأمين للمستقبل يقدمه الأب والمربي والأم لأبنائهم هو غرس الحب التعلم والعلم، فمهما كانت الأسرة ضعيفة الإمكانات إلا أنها تستطيع صناعة جيل غني بالعلم والثقافة والفكر المستنير، وبعد ذلك سيأتي الخير كله لذلك الجيل الذي ربي على العلم.
وهكذا أيها الأعزة يمكننا أن نتخذ من الإمام نور الدين السالمي وغيره من القدوات العظيمة مثالا لنا في الكفاح من أجل طلب العلم وتنمية المهارات ورفع الكفاءات، فنحن بحاجة ماسة اليوم إلى الشاب المؤهل والفتاة المؤهلة الذين يرفعون من شأن الوطن والأمة، ويسيرون على خطا الإمام نور الدين السالمي في طلب العلم والإنتاج الفكري وإثراء ساحتنا العمانية بالمعرفة والخبرة.

ناصر بن خلفان البادي