منذ يومين زرت سوق صلاله المركزي، استقبلتني الخيرات والنعم الكثيرة، رأيت وسمعت وشعرت بفرحة الناس، وعشت سعادتهم، تجولت بين بائعين اللحوم والأسماك والخضراوات والعيدان واللبان والبخور. وجدتني أعيش موجة من الفرحة انتقلت إلى من الناس الذين كان بعضهم يبتغون فضلا وأجرا من خلال التسبيح والذكر والبعض الآخر يقتلون الملل بالمزاح ولعب (الثبت) و (الدومينو) والبعض الآخر تجمهروا حول رواة السوالف والأخبار، بينما ينتظر آخرون تنظيف وتلميع مركباتهم.
سيمفونية رخاء وازدهار تغذيها روحانية رمضان، وتسكب عليها بركات ونفحات الوفرة والغنى. شيء رائع جدا أن ترى أهلك وذويك يعيشون هذه المرحلة النادرة في التاريخ من حيث تحقيق الأمنيات. ماذا يمكن أن يطلب مواطن عاش منذ مائة سنة؟ ماذا يمكن أن تتمنى فتاة عاشت منذ ثمانين عاما؟ ماذا يمكن أن يحلم شاب هاجر في مستهل خمسينيات القرن الماضي؟ ماذا يمكن أن يتمنى جنين في بطن أمه؟ ماذا يمكن أن يرجو مواطن عربي يعيش خارج السلطنة؟ عندما انتصف النهار كان الجميع على موعد مع أذان صلاة الظهر الذي ارتفع من الهواتف الذكية ومن المآذن الكثيرة ومن المسجد الصغير في وسط السوق. المواضيء زاخرة بالماء البارد والدافئ بلا عناء يتوضأ الناس ويقبلون على الله سبحانه وتعالى ويتركون قطع الدومينو والثبت والعيدان والبضائع والأموال في أمان. الأمان نعمة يستغرب بعض الناس تركيزي عليها في كتاباتي لأنهم لم يسافروا ولم يشاهدوا مظاهر الرعب والحذر والخوف والحراسات المشددة التي تحرس حياة الناس وأعمارهم وأموالهم ومنازلهم.
أقبلت أصلي مع الناس، وعندما فرغت من صلاتي تراءى لي ابن بطوطة الذي زار أسواق صلاله في 23 من رمضان من سنة 731 هـ، حيث وصف أهل صلاله بأنهم أهل تجارة وذكر أسواقهم وما تزخر بها من خيرات وتحدث عن كرم الناس وعن الرخاء وعن عملهم بالتجارة وخاصة تصدير الخيول والحرير وكثرة المزروعات وأنواع الأسماك وانتشار المساجد وتوفرها على المطاهر (حمامات الاغتسال) ويبدو أن تلك المرحلة التي زار فيها ابن بطوطة ظفار تتزامن من حيث موسم الخريف وشهر رمضان مع هذه الأيام التي نعيشها وتعيش حالة رخاء وأمان كالتي ننعم بها نحن اليوم. تمنيت أن يأتي ابن بطوطة من جديد إلى صلاله وأن يتمكن من زيارة بقية مدن السلطنة، ليرى ما تشهده عمان اليوم، وكيف يعيش الناس أيام وليالي الشهر الفضيل. ماذا يمكنه أن يجدد ويعدل في مشاهداته؟! أعتقد بأن ابن بطوطة سيدهش وسيطلب إقامة طويلة وربما لن يستكمل رحلته التي مضى فيها بعيدا.
قبل كتابة هذه السطور أديت صلاة العشاء ثم التراويح في مسجد الشنفري بالسعادة، وأطال الإمام الدعاء، وخرج الناس من الصلاة يتصافحون ويقبل بعضهم بعضا، وكانت السماء مكسوة بالضباب الناعم، بينما تأتي نفحات النسيم من ناحية البحر، والأرض التي يطل عليها المسجد خضراء ونظيفة جدا تتأبط ممشى جميلا، ماذا لو كان ابن بطوطة حيا ومعه هاتف ذكي، لكنت أرسلت إليه هذه المشاهد المثيرة. أي نعيم هذا الذي ينعم به الناس. لكن هذا النعيم كله لا بد أن يقترن بشكر المنعم، لا بد أن نشكر الله كثيرا ونحمده ونقابل هذه النعم بالعمل والمثابرة. وكأني أسمع ابن بطوطة يهمس لي من بعيد ويقول: اعملوا آل عمان شكرا، وقليل من عباد الله الشكور.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية