في ظل ما تمر به المنطقة من إرهاب متعاظم وغير مسبوق وما أحدثه في بعضها من شلل تام، وتحويلها إلى دول فاشلة، وأخرى نازفة، مهددًا كافة دول المنطقة بالفشل، لا يمكن أن يوصف وضعها الراهن إلا بأنه نكبة ثانية تعيشها المنطقة بعد نكبة فلسطين واغتصابها من قبل الصهيونية العالمية مدعومة بالقوى الغربية الامبريالية الاستعمارية وإقامة كيان الاحتلال الصهيوني على أنقاضها.
والمفارقة هنا أن ما تشهده دول المنطقة من تداعيات وتراجع تام على جميع المستويات سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا وتعليميًّا وصحيًّا وتنمويًّا، وتخلف وفقر وجهل، لا يمكن عزله عن المؤامرة الكبرى التي حاكتها الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية بغرز خنجرها المسموم (كيان الاحتلال الصهيوني) في خاصرة الجسد العربي.
ومنذ ذلك لم تهدأ وتيرة المؤامرات والدسائس ضد دول المنطقة وشعوبها وإشغالها في أنفسها بإثارة نوازع الشقاق واللعب على التباينات المميزة للمجتمعات العربية عرقيًّا ودينيًّا وطائفيًّا، وعرقلة أي نهضة تنموية حقيقية أو محاولة تكامل واتحاد بين أهل الضاد ورسالة الإسلام والسلام.
والمؤسف أن هذه الدسائس والمؤامرات ـ لإبقاء دول المنطقة في حالة انقسام وتشرذم وفرقة ـ أخذت أشكالًا متعددة تارة بالحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات المدنية والدينية، والتحريض على دول المنطقة واتهامها بعدم احترام تلك المبادئ، وانتهاك حقوق مواطنيها، وذلك بهدف تركيع هذه الدول وضمان تبعيتها للغرب الاستعماري الذي عمل على تفصيل سياسات بعض الدول العربية واقتصاداتها بما يتوافق مع توجهاته، ويخدم في المقام الأول حليفه الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني، بل إن الأمر وصل به إلى شن الحروب وفرض العقوبات على كل من يعتقد أنه يتمرد على الولاء والتبعية.
وباسم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان دمرت دول في المنطقة وأبيدت شعوبها وشردت، فتقدم الغزو الأنجلو ـ أميركي إلى العراق خطوة إلى الأمام باسم الديمقراطية وحرية التعبير لتدشين مشروع رسم خريطة المنطقة وما سمي بالشرق الأوسط الكبير، وباسم الديمقراطية الأميركية والحريات الغربية دمرت البنية التحتية للعراق واقتصاده ومؤسساته وشرد الملايين من أبنائه بعد قتل مئات الألوف وربما الملايين، سواء بالحصار الظالم الذي سبق الغزو، أو بالعدوان في العام 2003م، لتصحو المنطقة فيما بعد على حقيقة المشروع عماده المتاجرة بالحروب وبحقوق الشعوب العربية باسم الديمقراطية والحريات الغربية وسلاحه الإرهاب بعد تجرع مرارة الحروب المباشرة، وكان من إفرازات هذا الطارئ الجديد أو النكبة الثانية التحالف الغربي الاستعماري ومعه ذيوله وعملاؤه مع الإرهاب وأدواته، فخرج إلى العلن صنفان من القتلة: الأول قاتل يدعي أنه مكلف من الله، وقد جسدت هذا الصنف الحقبة "البوشية" بتحالف اليمين المسيحي مع الصهيونية، والثاني القاتل التكفيري متخذًا من الإسلام ستارًا لجرائمه وإرهابه. ويبرز هذان الصنفان بصورة لافتة اليوم من خلال الاعتداءات بحق الإنسانية وجرائم الحرب والإرهاب في أنحاء متفرقة من العالم وبخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس والجزائر ومصر، فالقاتل الأول يتستر اليوم بأقنعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عنها ليغطي تحالفه وتمويله ودعمه اللوجستي لحليفه القاتل الثاني الذي يتستر بستار الإسلام بزعم "الجهاد" و"نصرة" المظلومين، وفي النتيجة يخدمان طرفًا واحدًا وهو كيان الاحتلال الصهيوني سبب ومُسبِّبُ النكبتين الأولى والثانية.
ولذلك ليس غريبًا أن يتواصل مسيل الدماء ومشاهد الدمار في العراق الذي شهد يوم أمس الأول وحده تفجير 14 سيارة مفخخة حاصدة عشرات الأرواح من الأبرياء، وليس غريبًا أن يصحو لبنان أمس على تفجيرين انتحاريين جديدين في بيروت راح ضحيتهما عدد من الأبرياء بين قتيل وجريح، وكذلك استمرار المجازر والتدمير في سوريا وتواصل القتل والتفجيرات في اليمن وليبيا ومصر وتونس والحبل على الجرار.
ومع ذلك ورغم هذا المشهد تبدو ضربًا من المستحيل الاستجابة لدعوة العراق العالم إلى "اتخاذ مواقف وقرارات قادرة على الوقوف بوجه الإرهاب هذا التحدي الخطير والكبير"؛ لأن البعض المؤثر في المجتمع الدولي لا يزال مستفيدًا ولم ينقلب عليه سحره بعد، وإما عملية استخدام القوة من قبل الدول التي تكتوي به حاليًّا فينبغي أن تكون مدعومة بالحكمة والتخطيط والبناء والإعمار ومدعومة بحركة اجتماعية، فكرية، فقهية، سياسية لمواجهة نمو الجهل والذين يمتطون ظهر الجهل والجهلاء من أجل الوصول إلى أهداف سياسية خبيثة. لأنه ببساطة ممنوع أن تنعم دول المنطقة بالاستقرار والتنمية.