اختلف في المراد بالرفيق الأعلى على أقوال منها:
قيل: الله عز وجل، وقيل الجنة، وقيل الملائكة، وقيل الأنبياء ومن ذكر معهم في قول الله تبارك وتعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحسن أولئك رفيقاً" سورة النساء الآية"69"، وهذا هو القول المعتمد، والذي عليه اقتصر أكثر الشّرّاح.
في شهر ربيع الأول وفي أعوام مختلفة وقعت ثلاثة أحداث، كلها أحداث كبيرة، جميعها أحداث مهمة، وعظيمة، أحداث لا تنسى، ولن تنسى، أحداث لها ما لها قبل وقوعها من إرهاصات، ومقدمات، وعلامات، وأمارات، ولها ما لها بعد وقوعها من معطيات، واستحقاقات، ونتائج، وثمرات.
الحدث الأول: حدث ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، وكان حدثاً مباركاً مشرقاً، كان رحمةً للعالمين.
والحدث الثاني: حدث الهجرة النبوية في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية، وكانت كما قال عنها فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها" وها نحن نؤرخ بها امتثالاً لأمرك يا سيدي يا ابن الخطاب يا أمير المؤمنين.
أما الحدث الثالث: حدث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فوفاته تختلف عن وفاة سائر الناس، بل تختلف عن وفاة سائر الأنبياء والمرسلين؛ لأن بوفاته صلى الله عليه وسلم انقطعت الرسالات، وختمت النبوات، انقطع خبر السماء، انقطع الوحي عن الأرض، انتهى موكب الأنبياء، وكمُل عقد الرسالات؛ فلا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا رسالة بعد الإسلام، ولا وحي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
كثيراً ما سمعنا عن الحدثين الأول والثاني، وقلما سمعنا عن الحدث الثالث على أهميته، وإن سمعنا عنه فقليل، فتعالوا بنا نعيش مع لحظات هذا الحدث الجلل.
لكل بداية نهاية، ولكل أجل كتاب؛ في شهر ربيع الأول الماضي احتفل المسلمون، ونحن منهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت البداية، حيث كانت الولادة، حيث كانت الانطلاقة؛ فتحدث المتحدثون عن البداية، إلا أنهم سكتوا عن النهاية، لم يتحدثوا عن الوفاة.
نعم تلكم كانت البداية، فكيف كانت النهاية؟.
بعد ولادته صلى الله عليه وسلم توالت الأيام والشهور والسنون، وتوالت معها الأحداث والحوادث، والنوازل والوقائع، حتى بلغ الكتاب أجله، وبلغ العد حده، فكانت النهاية، كانت الوفاة وذلك يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية الشريفة حيث انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
لا شك أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصاب جلل، وحدث مفجع، ونازلة مروعة، اهتز لهذا الحدث الجسيم العالم كله، وبكى له الوجود بأسره، وأظلم الكون بسببه، فقد خيم على المدينة المنورة وساكنيها حزن شديد، ووجوم عجيب لا مثيل له ولا نظير، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فيه - أي وصوله المدينة المنورة مهاجراً- وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
كما أن للولادة إرهاصات ومقدمات، فكذلك كان للوفاة علامات وأمارات:
ففي العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم حدثت علامات وأمارات، وبرزت إشارات وإضاءات سميَّها ما شئت، كلها تدل على قرب الأجل، تدل على قرب انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. من ذلك : وداعه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما أرسله إلى اليمن قائلاً له: " إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا"، وفي حجة الوداع، وفي خطبته المشهورة الجامعة الخالدة ودع المسلمين قائلاً: " فإني لا أردي لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف أبداً". وللحديث بقية.

يوسف ابراهيم السرحني