كما أن لولادة النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصات ومقدمات، فكذلك كان للوفاة علامات وأمارات: ففي العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم حدثت علامات وأمارات، وبرزت إشارات وإضاءات سميَّها ما شئت، كلها تدل على قرب الأجل، تدل على قرب انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. من ذلك : وداعه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما أرسله إلى اليمن قائلاً له: " إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا"، وفي حجة الوداع، وفي خطبته المشهورة الجامعة الخالدة ودع المسلمين قائلاً: " فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف أبداً".
ومن ذلك اعتكافه صلى الله عليه وسلم في رمضان الأخير من حياته عشرين يوماً على غير عادته، فقد كان صلى الله عليه وسلم في كل رمضان يعتكف عشرة أيام فقط، كذلك في شهر رمضان الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم دارسه جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم مرتين، وكان يدارسه سابقاً مرة واحدة.
وفي حجة الوداع، وعلى صعيد عرفات نزل قول تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} سورة المائدة الآية"3".
فلما سمعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكى، فسئل: ما الذي يبكيك أنها آية
مثل كل آية نزلت علي الرسول صلى الله عليه بل هي آية تحمل من المبشرات ما يجعلنا نفرح ونسر.
فأجاب رضي الله عنه: أنها تحمل نعي دنو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان الأمر كما رأى. إنه يرى بنور الله تعالى.
كما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق في حجة الوداع سورة النصر: { إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبح بحمدك ربك واستغفره إنه كان توابا}.
وفيها نعي بدنو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذات يوم زار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شهداء أحد، فسلم عليهم، ودعا لهم، قائلاً: " السلام عليكم يا شهداء أحد، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وإني إن شاء الله بكم لاحق". وفي الطريق أثناء رجوعه صلى الله عليه وسلم من زيارة شهداء أحد بكى عليه الصلاة والسلام. قال الصحابة: ما يبكيك يا رسول الله؟. قال صلى الله عليه وسلم " اشتقت إلى إخواني".
قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟. قال صلى الله عليه وسلم: " لا أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني". اللهم إنا نسألك أن نكون منهم يا رب العالمين.
وذات ليلة خرج إلى مقبرة البقيع، لزيارة أهل البقيع للسلام عليهم والدعاء والاستغفار لهم، وكانت هذه الليلة قبل الليلة التي اشتكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم من المرض. وكأنه يودع الأموات كما يودع الأحياء، فعن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: " يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي"، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: " السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى"، قال: ثم أقبل عليَّ فقال: " يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة"، قال: قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: " لا ـ والله ـ يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل والجنة"، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف" رواه أحمد.. وللحديث بقية.

يوسف السرحني