في آخر ليلة من شهر صفر حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من مقبرة البقيع من تشييع جنازة اشتكى من وجع في رأسه عبارة عن صداع شديد صاحبه ارتفاع في درجة الحرارة. صاحبته حمى شديدة، وكان يطلب أن يصب عليه ماء بارد لتخفيف درجة الحرارة، وكان يخرج بصعوبة فيصلي بالمسلمين حتى صلى بهم أحد عشر يوماً وهو على هذه الحالة.
وقبل وفاته بتسعة أيام، وقيل بإحدى عشرة ليلة نزلت عليه آخر آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} سورة البقرة الآية"281".
فلما ثَقل على النبي صلى الله عليه وسلم المرض لم يستطع الخروج إلى المسجد للصلاة، فأمر أبا بكر أن يؤم المسلمين، وذات يوم وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، فأجلساه على يسار أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بإمامة أبي بكر الصديق؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤم أبا بكر الصديق، وأبو بكر الصديق يؤم المسلمين، وكانت هذه الصلاة هي صلاة الظهر.
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام اشتد به الوجع، وزاد به المرض وكان في بيت السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أزواجه الموافقة على أن يمرَّض في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها، فوافقن على ذلك، فأراد أن يقوم بنفسه، فما استطاع، فجاء علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس، فحملاه، ونقلاه من حجرة السيدة ميمونة إلى حجرة السيدة عائشة، فلما طلعا به من حجرة ميمونة إلى حجرة عائشة رآه الصحابة وقد كانوا في المسجد، فلما رأوه على هذه الحالة خافوا عليه؛ لأنهم أول مرة يرون النبي صلى الله عليه وسلم محمولاً على الأيدي، وأخذوا يتساءلون: مال رسول الله؟!، مال رسول الله؟!، حتى علت أصواتهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟، قالت عائشة: الناس يخافون عليك يا رسول الله، فقال: " احملوني إليهم"، فصُعد به إلى المنبر، فخطب خطبة كانت آخر خطبة له عليه الصلاة والسلام قال فيها: "أيها الناس كأنكم تخافون علي" قالوا: " نعم يا رسول الله"، فقال: " أيها الناس موعدكم معي ليس الدنيا، موعدكم معي عند الحوض، والله ولكأني أنظر إليه من مقامي هذا، أيها الناس، والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس الله الله بالصلاة الله الله بالصلاة"، فظل يرددها، ثم قال: " أيها الناس اتقوا الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيراً"، ثم قال: "أيها الناس أن عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله" فما أحد فهِم من هو العبد الذي يقصده، فقد كان يقصد نفسه أن الله خيّره، ولم يفهم سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان الصحابة معتادين عندما يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم يبقون ساكتين كأن على رؤوسهم الطير، فلما سمع أبو بكر كلام رسول الله صلى الله عليه سلم لم يتمالك نفسه فبكى، وارتفع نحيبه، وقال: "فديناك بأرواحنا يا رسول الله، فديناك بآبائنا يا رسول الله، فديناك بأمهاتنا يا رسول الله، فديناك بأولادنا يا رسول الله، فديناك بأزواجنا يا رسول الله فديناك بأموالنا يا رسول الله"، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " على رسلك يا أبا بكر، أيها الناس إن من آمن الناس عليَّ أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام، أيها الناس ما منكم من أحد كان له عندنا من فضل إلا كافأناه به إلا أبو بكر، فلم استطع مكافأته، فتركت مكافأته إلى الله تعالى عز وجل كل الأبواب إلى المسجد تسد إلا باب أبي بكر لا يسد أبداً".
وقبل أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر دعا للمسلمين قائلاً: " آواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، ثبتكم الله، أيدكم الله" ثم قال عليه الصلاة والسلام: " أيها الناس: اقرؤوا مني السلام كل من تبعني من أمتي إلى اليوم القيامة". وبعد إن انتهى من خطبته أُنزل من المنبر وحُمل إلى حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها. وللحديث بقية.

يوسف بن ابراهيم السرحني