....... السرحني
وفي ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الآخر حضر النبيَ صلى الله عليه وسلم القبضُ، وبدأت ساعة الاحتضار، ولحظات النزع، وتوالت سكرات الموت، وكان رأسه عليه الصلاة والسلام على حجر السيدة عائشة رضي الله عنها، وكلما اشتدت به السكرات تصيح السيدة فاطمة رضي الله عنها واأبتاه، واكرب أبتاه، فيقول لها: يا فاطمة ليس على أبيك كرب بعد اليوم، وقد أسر لها بأمرين؛ أحزنها وأبكاها الأول، وأفرحها وأضحكها الثاني، إذ أسر لها أولاً: أنه سينتقل إلى جوار به، فحزنت وبكت، ثم أسر لها ثانياً: أنها ستكون أول من يلحق به من أهله، ففرحت، وضحكت.
وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تصف لنا الدقائق الأخيرة، واللحظات الفارقة من حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلة: " إن من نِعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سًحْري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته" رواه البخاري. والسَّحْر هو الرئة أو الصدر، والنحر هو الرقبة.
تقول عائشة رضي الله عنها: " دخل عبد الرحمن بن أبي بكر – أخوها- وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟، فأشار برأسه أن نعم - لا يقوى على الكلام - فتناولته فاشتد عليه - لم يستطع أن يستاك بالسواك الجاف-، وقلت: أليّنه لك؟، فأشار برأسه أن نعم، فليّنته، فأَمَرّه - أي استاك به - وكان بين يديه ركوة - إناء من جلد- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول: " لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" وفي رواية: " اللهم أَعِنّي على سكرات الموت".
ثم غشي عليه صلى الله عليه وسلم فلما أفاق رفع يده، وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه بكلمات يتمتم بها في صوت خفيض، يقول: " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى".
وكان صلى الله عليه وسلم مُسنِدًا رأسه إلى صدر ورقبة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففاضت روحه الطاهرة، وانتقل إلى جوار ربه، انتقل إلى الرفيق الأعلى.
تقول السيدة عائشة: " فسقطت يد النبي صلى الله عليه وسلم وثقلت رأسه في صدري، فعرفت أنه قد مات، فلم أرد ما أفعل، فما كان مني إلا أن خرجت من حجرتي وفتحت بابي الذي يطل علي الرجال في المسجد، وأقول مات رسول الله، مات رسول الله، فانفجر المسجد بالبكاء".
حقاً إنه خبر مفجع، ألم بالمسلمين؛ فمنهم من هوى على الأرض كعلي، ومنهم كالصبي يؤخذ بيده يمنى ويسرى كعثمان، ومنهم طار صوابه، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخذ يتوعد كل من يقول إن النبي قد مات، ولا يلام الصحابة في ذلك؛ فالمصيبة أشد وأعظم من أن توصف، إنها لحظات عصيبة، وساعات مريرة.
أما أثبت الصحابة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه الشريف الطاهر، ثم أكبَّ عليه، وقبله بين عينيه، وهو يبكي، ويقول: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حياً وميتاً" ثم خرج إلى الناس رابط الجأش متماسكاً، وقال: " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فالله حي لا يموت" ثم تلا قول الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} سورة آل عمران الآية"144".
ويسقط السيف من يد عمر بن الخطاب، يقول عمر: فعرفت أنه قد مات، فخرجت أبحث عن مكان أجلس فيه وحدي لأبكي وحدي.
ثم تولى تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته، حيث غسلوه من وراء ملابسه، فصبوا عليه الماء صباً من فوق ثيابه، تقول عائشة رضي الله عنها: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله إلا نساؤه".
وبعد أن كُفَّنَ، وُضع على شفير قبره في حجرة عائشة الحجرة التي قبض فيها، وذلك للصلاة عليه والسلام عليه، فصلى عليه المسلمون فرادى أفواجاً أفواجاً؛ الرجال ثم النساء ثم الصبيان، وذلك بعد أصلى عليه الملائكة. ثم دفن في قبره ليلة الأربعاء، وهكذا أسدل الستار على حياة النبي المختار، وهكذا كانت النهاية.
وبعد دفنه صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة تبكي وقالت لأنس بن مالك كيف طوعت لكم أنفسكم دفني أبي في التراب بين أطباق الثرى؟!، فقال لها: يا ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استطعنا أن نجعل أباك معلقاً بين السماء والأرض لفعلنا، ولكن أنى لنا ذلك، وقد أنزل الله على أبيك قرآناً يقول فيه: { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} سورة طه الآية"55".