يعيش الفلسطينيون بشكل عام أزمات متتالية منذ عمر التسوية الراهنة، وقد تواكب مع تلك الأزمات أزمات إضافية سببها الرئيسي الضعف العربي والترهل، وانشداد المجتمع الدولي باتجاه أزمات جديدة، كان منها ما يجري في بعض بلدان العالم العربي، وكل ذلك على حساب حضور القضية الفلسطينية التي باتت آخر اهتمامات العديد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة.
إن أبرز تلك المشاكل والقضايا الأساسية التي يعاني منها الفلسطينيون في الوقت الحاضر، والتي تُكلفهم يوميًّا استحقاقات كبرى تطل مخاطرها عليهم، تتمثل بفقدان الوحدة الوطنية الداخلية بين عموم مكوناتهم السياسية والفصائلية وحتى المجتمعية، واستمرار الانقسام السائد في الساحة الفلسطينية منذ منتصف العام 2007، وفشل كل الجهود التي بذلت على صعيد إعادة بناء الوحدة الوطنية نتيجة تداخل الوضع الإقليمي بالوضع الفلسطيني، ورغبة الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الكولونيالي الصهيوني ببقاء الحالة الفلسطينية على ما هي عليه من انقسام وتفكك وتراجع. من هنا فإن المشكلة الكبرى في الساحة الفلسطينية في الوقت الحاضر تتجسد في استمرار الانقسام الداخلي الذي طال واستطال، وجمد عمليًّا كل عناصر وأدوات القوة المتوفرة باليد الفلسطينية. وبناء عليه فإن استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية تفتح المجال لتثمير أوراق القوة الفلسطينية واستخدامها في المسار الصحيح في مواجهة الاحتلال وسياساته. كما تفتح المجال أمام دور عربي وإسلامي مُلزم بمساعدة ودعم الموقف الفلسطيني على كل المستويات بما في ذلك المستويين الاقتصادي والسياسي، لأن الانقسام الفلسطيني يوفر للمتملصين من العرب الرسميين وغير الرسميين، فرصة الهروب من الاستحقاقات المطلوبة منهم تجاه الشعب العربي الفلسطيني على المستويين السياسي والاقتصادي.
ومن جانب آخر، إن استمرار الضغوط الأميركية على الجانب الرسمي الفلسطيني، في جانبها السياسي، ودفع الفلسطينيين للعودة لطاولة المفاوضات بالرغم من بقاء الأمور على حالها بالنسبة لسياسات الاستيطان وتهويد الأرض التي لم تتوقف لحظة واحدة. إن هذا الضغط السياسي على مصدر القرار في الجهة الرسمية الأعلى في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية يجعل من قدرتها على المناورة والتحرك قُدرة محدودة في ظل ضعف الوضع العربي وغياب الأسانيد والروافع العربية والإسلامية وحتى الصديقة الداعمة للشعب الفلسطيني بشكل ملموس.
وفوق كل هذا وذاك، إن مُشكلة الحالة العامة للناس في الضفة الغربية وقطاع غزة من ناحية التردي المُريع في الوضع الاقتصادي والمعيش بشكل عام، يُشكّلُ بدوره هماً كبيراً له استحقاقاته المؤذية، حيث تم وضع الحالة الفلسطينية الرسمية تحت رحمة أموال الدول المانحة، وتحت رحمة سياسات الاحتلال الاقتصادية التي دمرت الاقتصاد الفلسطيني المحلي بالضفة الغربية وقطاع غزة، وجعلته اقتصاداً تابعاً لدولة الاحتلال خصوصاً في ظل شروط اتفاق باريس الاقتصادي الموقع بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال عام 1996، وهو اتفاق ظالم ومُجحف. ففي الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967 هناك واقع اقتصادي مرهق وصعب جراء إجراءات الاحتلال المتعددة الجوانب، وجراء الأزمات المالية المتتالية التي تضرب من حين لآخر مفاصل سلطة القرار الرسمي الفلسطيني ومنها شح المساعدات الدولية، وقيام الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا باستخدام تلك المساعدات لتمرير أغراضها السياسية المعروفة عبر الضغط الاقتصادي والمالي والتلويح بقطع السيولة المالية عن السلطة الفلسطينية والتأثير على الكتلة المالية المخصصة لرواتب عموم الموظفين والعاملين في أجهزة ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية الذين يعيلون أكثر من مليوني نسمة من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعليه، بات الواقع المعاش في جوانبه الاقتصادية والحياتية لعموم المواطنين في فلسطين وتحديداً في المناطق المحتلة عام 1967 صعباً للغاية، فالرواتب باتت تتأخر من شهر لشهر آخر، كما باتت أسعار السلع الأساسية ترتفع كل يوم عن اليوم الذي يليه، فيما أوضاع العمل والعمال في تراجع لجهة زيادة نسب البطالة وارتفاعها في مجتمع فلسطيني يتميز باتساع قاعدته السكانية من قطاعات الفتوة والشباب الباحثة عن سبل الحياة وعن العمل. فحسب معطيات وكالة هيئة الإغاثة الدولية (الأونروا) المنشورة مؤخراً، فإن نسب الباحثين عن العمل في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 باتت تقارب نحو (65%) من نسبة اليد العاملة الحقيقية، وهي نسبة تواصل ارتفاعها بالرغم من محاولات إيقافها عبر برامج الدعم المقدمة من وكالة الأونروا ومنها برامج التشغيل المتواضعة، أو عبر بعض المشاريع الجزئية الصغيرة هنا وهناك.
ومن جهة ثانية، لقد ساعد غياب الإصلاحات الجوهرية والجدية داخل هياكل ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وعموم وزاراتها وإداراتها على إضعاف الحالة الفلسطينية عموماً، فالإصلاحات المطلوبة تتطلُب بالأساس حلولاً جذرية مركبة، حلولاً تلحظ المواءمة بين الجانبين الاقتصادي والسياسي اللذين لا ينفصمان عن بعضهما البعض. وهذا يعني بالضبط إعادة بناء النظامين السياسي والاقتصادي الفلسطيني بشكل مستقل عن الاحتلال وعن سياساته، وهذا لا يمكن أن يتم في ظل وجود الانقسام الداخلي المستفحل منذ العام 2007.
أخيراً، إن غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية واستمرار حالة الانقسام والتمزق الداخلي، ووجود سيل من الضغوط الخارجية الأميركية و"الإسرائيلية" على السلطة الفلسطينية وعموم الفصائل وتواضع حضور الدور العربي والإسلامي، ساعدا سلطات الاحتلال على استمرار وزيادة منسوب مشاريع التهويد والاستيطان والتي تُعتبر الآن العنوان الأكبر الذي يواجه الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية.
وأمام هذه الحالة، وفي ظل تراكم الاحتقان بين الناس في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967 لا يُستبعد انطلاق شرارات انتفاضة فلسطينية جديدة ثالثة في الداخل المحتل عام 1967، انتفاضة يتوقع لها حال اندلاعها أن تجرف أمامها كل شيء، ويتوقع لها أن تنطلق دون قرار أو استئذان من أحد، لتعيد ترتيب الأولويات، وتعيد حضور فلسطين إلى الخارطة السياسية الأممية وإلى أجندة المجتمع الدولي كقضية شعب ووطن وتحرر.