مساعد المفتي العام للسلطنة:
إذا أردنا الإصلاح علينا أن نُقِيمَ شرع الله حتى تقام تلك المصالح فينتشر الصلاح والإصلاح في هذه الأرض

يكون سير الإنسان في هذه الحياة الدنيا على علمٍ وبصيرةٍ، وأن يكون موافقاً لحركة هذا الوجود

إعداد ـ احمد بن سعيد الجرداني:
ايها القراء الكرام ونحن نقلب صفحات المعرفة اخترنا لكم اليوم موضوعا مهما لطالما اشبع كتابة وخطبا ومشاهدة وهو موضوع الإصلاح في هذه الارض يقول الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة 10ـ11).
وهذا الموضوع تحدث عنه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة من خلال برنامج (دين الرحمة) الذي كان بثته الاذاعة العمانية في اعوام مضت فمع المادة بتصرف..
حقيقة الإصلاح في الأرض
أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة : يقول فضيلة الشيخ الدكتور كهلان الخروصي: موضوع الإصلاح في الأرض من الموضوعات الجديرة بالعناية التي تستحق منا كل اهتمامٍ ودراسةٍ وبحثٍ وفهمٍ عميق، ولو لم يكن من شأن الإصلاح في الأرض إلا أن كل أحدٍ يدعيه مُبطِلاً كان أو مُحِقّاً.. سائراً في طريق صواب الصلاح أو مُجانِباً لها فإن الجميع يَدَّعي أنه مُصلِحٌ في هذه الأرض.. مُحَقِّقٌ للصلاح فيها، وسوف يتبين لنا حقيقة الإصلاح في هذه الأرض.
الإصلاح بمفهومه الواسع الشامل، الذي يعني: الصلاح في الأنفس، والصلاح في هذه الأرض التي يحيا فيها هذا الإنسان تشييداً لحضارته، وعمارةً لسبل عيشه فيها، وانتفاعاً بما سخره له ربه تبارك وتعالى في سماواتها كما في أرضها، سبراً لأغوارها، واكتشافاً لأسرارها، وانتفاعاً بكل مقدراتها، واستغلالاً لكل الملكات والطاقات التي أنعم الله عز وجل بها على هذا الإنسان المُكرَّم المخلوق له سبحانه وتعالى حتى يكون صالحاً في نفسه مصلحاً في هذا الكون، سواء من خلال فعله بنفسه فرداً يُسلِّم أمره كله لله عز وجل، ويسير في عيشه في هذه الحياة على هَدي الأنبياء والمرسلين أو كان ذلك من خلال عمل الجماعة من المجتمعات والأمم والشعوب بناءً لحضاراتهم، وعمارةً وإصلاحاً لهذه الأرض، وأداءً لحقوقها عليهم، وأداءً لحقوق الناس الذين يعيشون في هذه الأرض، سواءٌ من خلال المعنويات التي يشتمل عليها هذا المخلوق الذي هو الإنسان أو من خلال الماديات التي يحتاج إليها أو التي رُكِّبَتْ فيه.
دعوى الصلاح والإصلاح كانت قائمة من قِبَلِ

وقال فضيلة الشيخ: إن دعوى الصلاح والإصلاح كانت قائمة من قِبَلِ أولئك الذين توجه إليهم خطاب هذا الدين، سواءً كانوا ممن أنكر الألوهية وأنكر الاستجابة تماماً لدعوة خاتم الأنبياء والمرسلين أو كان ذلك ممن أظهر الاستجابة والاستسلام وأبطن الكفر والإشراك بالله عز وجل كما هو شأن المنافقين المُعَرَّضِ بهم في هذه الآيات (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ) من سورة البقرة، وكون ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون هو الصلاح لأنه من عند الله عز وجل، ولأن الله تعالى حكيمٌ عليمٌ خبيرٌ أراد لهذا الإنسان أن يهتدي في هذه الحياة بما يحقق له المنفعة والمصالح في دنياه، وما يُبلِّغُهُ السعادة والرضا في أخراه؛ فإن الاستجابة لدعوة الأنبياء والمرسلين التي تَحمِلُ هذا الهدى وذلكم النور لا شك هي الصلاح بعينه.
وبالتالي فإن الإصلاح والصلاح في هذا السياق بمعنى واحد، فقد يكون الإصلاح الذي هو جَعْلُ الشيء صالحاً لِمَا هو صالحٌ في ذاته، كما أنه يمكن أن يكون بمعنى تحويل الشيء الفاسد إلى صالح، فكلمة الإصلاح تُستَعمل في المعنيين أي ما هو صالحٌ في ذاته أو ما كان فاسداً ثم يُحوَّل إلى أمر صلاح، وسوف نأتي على جملةٍ من الأدلة من كتاب الله عز وجل التي استخدم فيها الإصلاح في الأرض بكلا المعنيين، لكنه- كما تفضلتم- هو ضد الفساد، فالصلاح ضِدُّ الفساد، وكما أننا نجد آياتٍ كثيرة في كتاب الله عز وجل تدعو إلى الإصلاح وتُبيِّن أن منهج الأنبياء والمرسلين ومن سار على هداهم هو منهج صلاحٍ وإصلاحٍ في هذه البسيطة فإننا نجد طائفةً من آيات كتاب الله عز وجل تُحذِّر من الفساد والإفساد، وتُبيِّن أن مخالفة أمر الله عز وجل والتنكب عن الاستجابة لداعي الإيمان والاهتداء بدعوة الأنبياء والمرسلين هو الفساد في عينه وهو الإفساد في الأرض.
الدين الأخلاق والقيم
وبين فضيلة الشيخ حول اوجه الإصلاح قائلاً من أوجه الإصلاح التي دعا إليها هذا الدين الأخلاق والقيم؛ ولذلك ما من تشريعاتٍ من تشريعاته من أوامر أو نواهٍ إلا وهو مُكتَنَفٌ بتشريعاتٍ خُلُقِيَّةٍ تُزَكِّي هذا الإنسان، وتسمو به في مراتب الكمالات الإنسانية فوق حظوظ النفس، وفوق قبضة الطين التي خُلِقَ منها لكي يكون بعد ذلك سلوكه وخُلُقُهُ سلوكاً متناسباً مع نفخة الروح التي أكرمه الله عز وجل بها خُلُقاً يتسامى فوق أغراض هذه الحياة الدنيا، ويترفع عن السفاسف والدنايا، فيَظهَر أثره في هذه الحياة رِفْقاً، وحسن خُلُقٍ للآخرين.. وحسن معاملة للآخرين، ورحمةً تتجلى في كل معاملةٍ من معاملات هذا الفرد، وتعاوناً على البر والتقوى، وتآلفاً بين القلوب، واستلالاً لكل أسباب الحقد والبغضاء والعداوة التي يمكن أن تنشأ بين الناس، وتآلف صَفٍّ وجمع كلمةٍ يعززها جملةٌ من الأوامر، وجملةٌ من التشريعات التي جاءت صريحةً في كتاب الله عز وجل، وفي هدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
ومع كون الإصلاح ظاهراً جلياً في هذا الوجه في ما يتصل بالأخلاق والقيم التي يدعو إليها هذا الدين فإن الإصلاح في الأرض ظاهرٌ جليٌّ في أحكام هذا الدين، فإن كل أحكامه إنما تدعو إلى الإصلاح؛ لأنها تَقصِد إصلاح النفوس، وتهذيب الطباع، وتزكية الأخلاق، وأن يكون سير الإنسان في هذه الحياة الدنيا على علمٍ وبصيرةٍ، وأن يكون موافقاً لحركة هذا الوجود بأسره الذي يُسبِّح بحمد الله عز وجل {... وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الإسراء:44)، فإذاً كل أحكام هذا الدين حينما يَلتَزِمُ بها المسلمون إنما تُحقِّقُ لهم الصلاح في أنفسهم، والإصلاح في هذا الكون؛ لأنها سوف تَنفِي عنهم الفساد والإفساد، وسوف تجعلهم مراقبين لله سبحانه وتعالى.. راغبين في نيل ثوابه.. مبتعدين عن كل ما يؤدي إلى الأذى والضرر والإضرار.. متمسكين في ذلك بنور الله عز وجل الذي أكرمهم به؛ الذي هو القرآن الكريم، ومسترشدين بهدي الوحي الذي خاطبهم به نبيهم محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-في سنته القولية والفعلية والتقررية، لأنه مُتَمّمُ الرسالات السابقة، وما من رسولٍ أو نبيٍّ قبله إلا وقد دعا إلى الإصلاح في الأرض.

استقامة الإنسان في نفسه صلاحٌ وإصلاح

وقال فضيلة الشيخ الدكتور كهلان الخروصي : الإصلاح في الأرض فإن ذلك لا يعني أن الإصلاح في الأرض يقتصر على دعوة الآخرين إلى الخير والصلاح، وإنما يبدأ بالنفس، فحسن استقامة الفرد لأوامر الله عز وجل هي في ذاتها إصلاحٌ في الأرض، هي ليست صلاحاً فقط بل هي إصلاحٌ في الأرض؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يأمر بالاستقامة، والاستقامة في حقيقتها هي الاستسلام لأمر الله عز وجل والانقياد لأوامره والوقوف عن نواهيه، والرسول-صلى الله عليه وسلم-لما جاءه رجل يستنصحه قال: "قل ربيَّ الله ثم استقم"، والله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ ...} (هود:112).
إذاً استقامة الإنسان في نفسه صلاحٌ وإصلاح، نعم يُطلَب منه أن ينشر هذا الإصلاح.. أن ينشر هذا الخير والهدى، وأن يدعو إليه، وأن يُبلِّغَه للناس، لكنه إن لم يستطع ذلك لأي سببٍ كان فلا أقل من أن يكف أذاه عن الناس، وهذا يؤيده حديثٌ من أحاديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في الرجل الذي جاء يسأله عن خير ما يقربه إلى الله تبارك وتعالى، فلما قال له: "إيمان بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "جهادٌ في سبيله" قال: ثم ماذا؟.. حتى إذا ما وصل قال: فإن لم يجد؟ قال: "يكفّ أذاه عن الناس"، والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول: "بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقُرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"، ويقول: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده".
.. وللموضوع بقية بإذن الله تعالى.
(المصدر ـ موقع القبس الالكتروني)