[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
والأنموذج الأيسلندي ليس الوحيد في انتهاج الشجاعة على إعادة النظر في ما نسميه النمط التنموي الليبرالي المعتمد على سيادة بل تغول رأس المال فإن دولا أخرى تصدت للنظام العالمي الجائر واختارت أن تسلك طريقا مبتكرة لتحقيق التنمية منها دولة (كيبك)، وهي مقاطعة كندية تتمتع باستقلال ذاتي واسع، وهي التي كانت إلى حدود سنة 1980 ذات اقتصاد يعتمد استغلال الغابات والمناجم، وبدأت تتحول إلى اقتصاد المعرفة وابتكار التكنولوجيا.
منذ زمن بعيد لم أحد عن مبدإ النصيحة لبني وطني ولأوطان العرب حسب اجتهادي المتواضع، ولا أدعي الأنفراد بالحقيقة، لكني أتمسك بما أعتقده حتى يقنعني غيري بما يخالف رأيي فأعتذر وأشكره. فشعوبنا تطالبنا بتوفير الأمن وهو أولويتها القصوى وبإعانتها على تأمين لقمة العيش بالتحكم في الأسعار وملاحقة المطففين، وتطالبنا بضمان مستقبل أبنائها بالتعليم الجيد وبتشغيل العاطلين منهم، وبتطبيق مبادئ استقلال السلط الثلاثة حتى يطمئن المواطن للعدالة المستقلة النظيفة ولمجلس نيابي وطني حر وحكومة تجمع بين الكفاءة والنظافة. كما يتطلع المواطن إلى توفير مناخ احترام الحريات الأساسية والحقوق المدنية حسب ما نصت عليه الدساتير ما بعد الهزات العنيفة التي انطلقت لإلغاء أنظمة الاستبداد والفساد وتحرير العقل. لكن الذي رصدناه هو عكس هذه النتائج المرجوة فتم إبعاد المستبدين ليعوضهم العاجزون، وتم القضاء على الاستبداد لتعوضه الفوضى. وإذا نحن أردنا أن نحقق لشعوبنا ما تطمح إليه من إصلاحات عميقة فلنتأمل تجارب دول أخرى نجحت فيما أخفقنا فيه ومرت إلى مرحلة جديدة من التوازن والتنمية والرقي الحضاري. وهي تجارب جديرة بالقراءة والاعتبار، وأهم تجارب النجاح بدأت بإعادة النظر في منظومة التربية والتعليم؛ لأن المدرسة هي الرحم الذي يترعرع فيه جنين المواطن الصالح فدول مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة والسويد والنرويج والدانمارك طبقت خيار ما يسمى المدرسة المفتوحة (open school) وهي تعني فتح المؤسسة التربوية على محيطها أي غرسها في بيئتها بمعنى أن مدرسة في مدينة تختلف عن مدرسة في الريف أو في منطقة جبلية وعن مدرسة على ساحل البحر ومدرسة في فضاء زراعي، وذلك بتقسيم المواد التعليمية إلى 60% مواد عامة (جذع مشترك) كالتاريخ والجغرافيا والعلوم والأداب. أما المواد الباقية 40% فهي تؤسس لربط الشباب المتعلم ببيئته وتأهيله لتنمية إقليمه وعدم الهجرة منه. كما أن أنموذج دولة أيسلندا يشكل مختبرا يقدم لنا كيف تغلبت هذه الدولة الصغيرة على أزمة إفلاس سنة 2008 حين تأثرت أيسلندا أكثر من سواها بالانهيار الخطير للمؤسسات النقدية الأميركية والعالمية، وعوض أن تمارس الدولة الأيسلندية الكذب والتدليس وتطالب حلفاءها بتسديد العجز، اختارت المواجهة الجريئة لجذور الأزمة بالحزم والقانون، فقام النائب العام (أولافور هاوكسن) بإدانة عدد من رؤساء البنوك واتهامهم بما يسمى قانونا (إعلان الإفلاس الكاذب) بالفرنسية faillite frauduleuse فأودعهم السجون وطالبهم بالغرامات المناسبة لحجم الخسارة في المالية العمومية وجبر أضرار الاقتصاد الوطني، مؤكدا أن صانعي الأزمة هم الذين يحاسبون لا ضحاياها! تقلصت نسبة الديون العامة من 95% من مجمل الناتج الداخلي الخام إلى 54%. ولم تقف الدولة ضد تخفيض العملة الوطنية (الكورونا) بل قبلت هبوطها مقابل ارتفاع حجم الصادرات وتحريك عجلة الصناعة. مع العلم أن أيسلندا ليست عضوة في الاتحاد الأوروبي (مثل اليونان التي أسعفها الاتحاد)، ولا تملك ثروات طاقة بل يعيش 60% من شعبها على الصيد البحري وتصدير السمك. نسبة البطالة في أيسلندا تقلصت سنة 2014 إلى 2,3% مقابل 11% في كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، وهي دول أقوى منها وأغنى، إلا أنها لم تراهن على الجرأة في مقاومة الليبرالية المتوحشة وسيطرة طبقة واحدة على مقدرات الشعوب. والأنموذج الأيسلندي ليس الوحيد في انتهاج الشجاعة على إعادة النظر في ما نسميه النمط التنموي الليبرالي المعتمد على سيادة بل تغول رأس المال فإن دولا أخرى تصدت للنظام العالمي الجائر واختارت أن تسلك طريقا مبتكرة لتحقيق التنمية منها دولة (كيبك)، وهي مقاطعة كندية تتمتع باستقلال ذاتي واسع، وهي التي كانت إلى حدود سنة 1980 ذات اقتصاد يعتمد استغلال الغابات والمناجم، وبدأت تتحول إلى اقتصاد المعرفة وابتكار التكنولوجيا والخبرات بفضل برنامج طموح وجريء حتى أن وزارة التنمية الاقتصاية تسمى لديها بوزارة الإبداع (innovation). ثم إذا تأملنا تجارب دولة مثل ماليزيا اكتشفنا أن نهضتها السريعة بدأت مع مشروع رئيس حكومتها (مهاتير محمد) الذي تمسك بقيم الحضارة الإسلامية مثلما تمسك اليابان بقيم حضارة شينتو والبوذية، فكانت حداثة ماليزيا وحداثة اليابان من نوع الحداثة الأصيلة، بعكس الحداثة لدينا، وهي حداثة دخيلة لا تؤدي إلى التنمية ولا إلى التوازن الاجتماعي، بل تشوه مجتمعاتنا وتدلس تاريخنا وتسرق مستقبلنا. إننا في تونس رغم حسن نية الحكومة المنتخبة نخاف مواجهة اللوبيات المتمكنة فلا نقدم على إصلاحات جوهرية جذرية فتصاب بلادنا بتصلب الشرايين فأين التغييرات المنتظرة لنظام الجباية والجمارك؟ وأين تحرير المناطق الحدودية بسن قوانين للتجارة الحرة لكن الخاضعة للأداءات؟ وأين تحويل وزارة أملاك الدولة إلى وزارة توزيع أملاك الدولة؟ وأين تطوير مجلة الأحوال الشخصية التي أصبحت مجلة لتفكيك أواصر الأسرة (ارجعوا للأرقام القياسية التي بلغناها في نسبة الطلاق وتفشي العنوسة، وتزويد الإرهاب الدولي بالشباب، وانتشار الأمراض النفسية والإجهاض الوحشي والزواج العرفي والعنف الأسري!) ثم لتبدأ حكومة الحبيب الصيد بإعادة النظر في مظهر متخلف يكتشفه كل قادم لبلادنا في المطار وهو إجبار القادم المسكين المتعب على كتابة بطاقة حدود فيها من أين جاء وإلى أين ذاهب! ورقم جوازه وتاريخ إصداره وأين صدر؟! وهو إجراء لم يعد موجودا إلا في بعض الدول المتخلفة أو الشمولية لأن الجواز بين أيدي شرطة الحدود والكمبيوتر يوضح كل التفاصيل. وما ذنب الحاجة حليمة وهي لا تعرف القراءة ولا الكتابة وعادت من زيارة ابنها في فرنسا تبحث في المطار ساعة عمن يتطوع لتعمير بطاقتها... لديه الوقت والقلم! وما ذنب السائح الذي يصطدم بهذه البطاقة وهي ذات جزأين لا يعرف أي جزء منهما يملأه (وأنا نفسي لا أعرف و رب الكعبة)! يا رئيس الحكومة ابدأ بهذا الإصلاح البسيط وأرحنا من هذا العذاب.