مقدمة
كتبت هذه الخواطر بعد أكثر من عقد من التعرف على البروفيسور محمد صالح مكية (1914 – 2015) والذي رحل قبل أيام، بعد مائة عام وعام من حياة حافلة بالعطاء سطرها كشخصية عزّ نظيرها. في هذه السطور التي كتبتها عام 2009 ولم أنشرها قبل الآن، في كتاب من أربعين فصلا ونيف، أسرد للقارئ انطباعاتي الأولى في أول مقابلة لي مع هذا المعماري العملاق في منتدى الكوفة بلندن، أيام كنت طالبا أدرس في جامعة لندن للدكتوراة، وكيف قادتني الظروف للتعرف على المنتدى والعمل معه لثلاث سنوات. الخواطر التالية كتبتها في 4 مايو 2009 من بيتي بلندن ضمن سلسلة مذكراتي كعربي في المهجر، وأنشرها كما كتبتها آنئذ أول مرة دون تحرير.

***

ذهبت لمقابلة محمد مكية لأول مرة في ربيع العام 1997. وكنت في زيارة سابقة للندن قد ذهبت للتعرف على منتدى الكوفة، لذلك فلم تكن هناك مشكلة في الوصول للمكتبة القريبة من محطة قطار الأنفاق (Bayswater). ووصلت للجانب الأيمن للمكتبة وطالعني باب زجاجي نقشت عليه بأناقة عبارة (Kufa Gallery) وشعار المنتدى مربع الشكل الذي صممه الدكتور مكية. نزلت الدرجات القليلة التي توصل للباب الرئيسي للمعرض بعد نهاية الممر الأمامي الذي يصل أيضا للباب الجانبي لمكتبة الساقي. دخلت الباب الزجاجي الثاني وطالعني على اليمين حيث الاستقبال وجه باسم كان وجه الرجل العراقي الفاضل وليد الذي طلب مني الجلوس قليلا على المقاعد العربية في المنطقة الأمامية في جهة اليسار إلى أن يعلم الدكتور محمد مكية الذي كان يجلس في مكتبه المخفي بمهارة خلف الجدار النصفي الذي كان يقابل الداخل للمعرض.
المنتدى كان عبارة عن حيز فراغي يرتفع على أكثر من ثلاثة طوابق. يغطي سقفه هرم زجاجي يدخل الإنارة العلوية للمكان بشكل بديع. فالمنطقة الوسطية منه كانت ترتفع على كامل المبنى وتحيط بها رواق مسقوف. المنطقة الأمامية للمنتدى كانت عادية السقف وتتضمن الاستقبال على جهة اليمين وكاونتر يستعمل لجلوس الزوار المعروفين، وفضلا عن ذلك وكما رأيت لاحقا كان يستخدم لتناول طعام الغداء أيام الأربعاء بمشاركة الدكتور مكية وأهل المنتدى من المجتمع العراقي الذين تطوعوا للعمل هناك، حيث يتفنن كل منهم بجلب الطعام البيتي العراقي اللذيذ. في وجه الزائر يطالعك جدار نصفي يعلوه شعار منتدى الكوفة المربع باللون الأخضر وتتدلى من سقفه الشاهق مخطوطة جدارية بديعة. الرواقين الأيمن والأيسر للقاعة الوسطية يقودان بدهاء لمكتب الدكتور محمد مكية الذي كان يشكل حجم الرواق الثالث المحيط بالقاعة ولكن تم ترتيبه بأناقة تحيط به أرفف الكتب والمخطوطات القيمة والمجلدة النادرة مع فتحة طولية أعلى الجدار النصفي تمكن من دخول كمية من الضوء للمكتب بطريقة معمارية رائعة. مكتب الدكتور مكية كان يحتل نصف الممر الثالث الأيسر فيما يفصله عن النصف الثاني حاجز خشبي بجانبه سلم يقود لطابق الميزانين العلوي الذي يعلو الأروقة الثلاثة وبهو المدخل الأمامي ويشترك في واجهة زجاجية كاملة مع مكتبة دار الساقي حيث يمكن لموظفي المكتبة من رؤية "أهل الكوفة".
وبعد هذا المسح العاجل للمكان والذي تأملته في السنين اللاحقة، عاد وليد ليخبرني أن الدكتور بانتظاري في مكتبه. ودق قلبي سريعا إذ كنت قد سمعت عن الدكتور المعماري العراقي الشهير ولم أقابله، وكان يومها يبلغ من العمر أوائل الثمانينيات وهو بمنزلة المعماري الراحل حسن فتحي في مضمار إسهاماته في العمارة العربية المعاصرة. وكانت فرصة مهمة لي للتعرف عن قرب على فكره، ومقابلته ابتداء. تقدمني وليد مدير المكتب عبر الصالة الوسطية ونحى باتجاه الرواق الأيسر حيث دلف لمكتب الدكتور وكنت أسير على مقربة منه. فدخل معرفا وقال للدكتور مكية: "هذا المعماري وليد السيد قد وصل!" فسمعت صوت الدكتور ممازحا لوليد قائلا: " اسمه مطابق لإسمك!". وانسحب وليد بعد أن تبادل مع الدكتور مكية عبارات الممازحة، فيما تقدمت بضعة خطوات مادا يدي مصافحا للدكتور مكية الذي قام بتواضع جمّ مرحبا من وراء المكتب بابتسامته العذبة وهي مما يميز هذا الرجل النادر.
الدكتور محمد مكية وكما عرفته بعدها على مدار سنوات ثلاث متواصلة، هو رجل تقرأ في وجهه تعبيراته وأحاسيسه بدون مواربة ولا خفاء. فإن كان فرحا تضحك جميع قسمات وجهه لا فمه فقط. ولم أر في حياتي كلها رجل بشفافية تعابيره في وجهه. وإن تضايق من أمر ما ترى ذلك في وجهه بجلاء أيضا. لكنه لم يجرح أحدا بشكل مباشر قط أو ينال منه لشخصه رغم مقدرته. فقد يختلف مع غيره لكنه لا ينزل لمستوى التجريح الشخصي ويظل انتقاده عاما لا يجرح من حوله. تجربتي مع منتدى الكوفة والدكتور محمد مكية على مدى السنوات الثلاث كانت تجربة متميزة تستحق الوقوف عندها طويلا، وبخاصة متعلقاتها الثقافية والأكاديمية، وفوق ذلك كله الاجتماعية بخصائص مجتمع هذا المنتدى الرائد وما يحويه من شخوص متميزة رائعة مع ما حوله من الشخوص التي تتردد على المنتدى كل أربعاء في أمسية ثقافية أضحت مجمعا عربيا لندنيا وأوروبيا وأحيانا شرق أوسطيا جلب الكثير من الشخصيات والمثقفين والمفكرين والمبدعين حتى أغلق المنتدى في صيف العام 2006 بعد عشرين عاما تماما من انطلاقته.
بدايتي مع العمل على مذكرات البروفيسور محمد صالح مكية كانت من خلال هذه المقابلة القصيرة المضيافة التي تخللها سؤال وجواب عن سبب قدومي للندن. فقصصت على الدكتور مكية التحاقي ببرنامج الدكتوراة بجامعة لندن وعملي قبلها مع رائد العمارة العربية المعاصر راسم بدران على العديد من المشاريع المهمة عربية وعالميا، وزيارتي قبلها أثناء الدراسة الجامعية الأولى لحسن فتحي. وهذه المقابلة وما كوّنه البروفيسور مكية من خلفية عملي كمعماري وباحث أكاديمي مهدت لفتح الموضوع حول مذكراته التي يسعى لنشرها والتي تتضمن خبرته العملية والأكاديمية على مدى خمسين عاما ـ وهي من أطول الفترات التي يمكن تتبعها لمعماري عربي بالإضافة لحسن فتحي الذي لم يمض على رحيله آنذاك سوى أقل من عقد ـ إذ توفي في العام 1990. وهكذا كان هناك شغف لدي بتتبع سيرة حياة معماري وأكاديمي فذّ كالبروفيسور محمد صالح مكية عن قرب ـ وكنت وما زلت أؤمن بأهمية تتبع خطى الرواد الأوائل وملازمتهم لصقل الخبرة وتطوير المواهب الشابة- بالإضافة إلى أن حصيلة خبراتي المتراكمة آنذاك، الأكاديمية والعملية، كانت تشكل فرصة جيدة لكتابة مذكرات الدكتور مكية.
يبدو من المهم هنا التعريف والتعرف بنظرة متفحصة لمجتمع منتدى الكوفة المصغر والذي يمثل في معظمه مجموعة من الأخوة العراقيين في المنفى. مجتمع "الكوفة" كان يمثله العراقي وليد وهو مدير المنتدى آنذاك والذي كان يقوم على إدارة شؤونه اليومية. فالمكان كان بمثابة معرض يتم استئجاره من قبل الفنانين وغيرهم حيث تعرض أعمالهم لقاء أجور تعد رمزية، لفترة زمنية غالبا ما تكون أسبوعيا. وخلال هذه الفترة يفتح المنتدى أبوابه للعامة من المهتمين، كما يقوم وليد على طباعة قائمة شهرية بالمعارض والمحاضرات والندوات الثقافية يتم الإعلان عنها في النشرات العربية، كنشرة الرابطة العربية في لندن، أو على الواجهة الأمامية لمعرض الكوفة نفسه حيث يطالعها الرائح والغادي من العرب المقيمين بلندن والمهتمين. وليد كان يمثل الهمة والنشاط والتطوير الدؤوب للقدرات الذاتية، فهو دائم التعلم ويحسن الاستفادة من الخبرات المحيطة. وقد روى لي وليد كيف اختاره مكية دون غيره كمدير وقيّم على أعماله في منتدى الكوفة فضلا عن اطمئنانه لأن المنتدى وممتلكاته بأيدي أمينة. ففضلا عن تقوى وورع وليد، فقد روى لي وليد كيفية انتقاء مكية له في مطلع الثمانينيات. فالحرفة الأساسية لوليد كانت هي النجارة. وقد استقدمه مكية مع رجل آخر لعمل بعض الأعمال الخشبية في المنتدى. وبعين المتبصر الملاحظ والذي مرت عليه شرائح واسعة من المستخدَمين في حياته العملية، لاحظ مكية إخلاص وليد في إنجاز العمل في وقت قياسي برغم أن العمل كان متعاقدا عليه بمبدأ "المياومة". لكن ورع وليد أبى عليه المزايدة في ساعات العمل، فضلا عن يوم أو أيام. وهكذا على مدار عشرة أيام لاحظت عين الخبير مكية إخلاص وليد في عمله ومراعاة ربه في إنجاز العمل "وتحليل" لقمته. وبعدها طلب منه مكية إدارة منتداه بعد أن خبر فيه الإخلاص والأمانة. وليد كان يتمتع بشخصية فيها الحزم وعدم المجاملة مع اللين واللطف والتسامح وحسن المعاشرة. فقد كان مثال الرجل المناسب سهلا وممتنعا حازما في آن واحد. يحسن مخاطبة شرائح الناس دون تردد أو مجاملة مما أكسبه ثقة مستخدمه وحب من حوله.
الشخصية الأخرى المهمة في المنتدى كانت شخصية رشيد "أبو سارة". وهو رجل مثقف كان يجالس الدكتور لمتابعة أحوال المنتديات الثقافية والمساعدة في إعداد المحاضرات والبرنامج الثقافي الشهري. وهو رجل مثقف يهوى الأدب العربي بخاصة، الكلاسيكي منه والحديث، وقد حصل على شهادة الدكتوراة من إحدى الدول شرق الأوروبية. وقد كانت زوجته أم سارة وهي مثقفة وباحثة أيضا تعاون جزئيا في كتابة مقالات الدكتور محمد مكية وإجراء حوارات مسجلة معه، وكان لآل "أبو سارة" دور ثقافي ومساهمات متواصلة في حاضرة منتدى الكوفة الأسبوعي الذي كان يعقد كل أربعاء من كل أسبوع ويحضره العموم من الجالية العربية بلندن. البيئة الإجتماعية بمنتدى الكوفة كانت متميزة بشخصية محبوبة ومقربة للجميع ببساطتها وشفافيتها المتناهية وروحانياتها العالية، هي شخصية الرجل الرائع "أبو زيد". أبو زيد كان مصورا محترفا، وهو رجل فاضل من أروع من صادفتهم في لندن، قدم مع عائلته إلى لندن قبلي بحوالي عشرة سنين، وكان يحترف التصوير وله عين ناقدة خبيرة بمتعلقاته. وكان يعاون الدكتور محمد مكية بين الفينة والفينة في أرشفة صور من مئات الكتب الثمينة التي كانت تزين جدران منتدى الكوفة. أما الشخصية الأخرى فكان "أبو صالح" وهو من القلائل ممن يجيد الطبخ العراقي على أصوله، وكان يشتهر بذلك بين أواسط الخاصة من الجالية العراقية وبخاصة منتدى الكوفة. وقد صعد نجم "أبي صالح" في منتدى الكوفة وكانت له حظوة وتقدير، حيث اعتاد الأخوة على جلب أطايب الطبخ البيتي على الغداء كل يوم أربعاء. ولا أدري سبب أو تاريخ هذا التقليد الاجتماعي بمنتدى الكوفة كل أربعاء. وربما يحسن التوقف قليلا على برنامج الكوفة الأسبوعي مما قد يلقي الضوء على سر الغداء يوم الأربعاء. وللحديث بقية ...

د. وليد أحمد السيد