لعلَّ الإدراك بمستويات للفصاحة ـ بين العربيَّة العامية والعربيَّة الفصيحة ثمَّ الفصحى ـ يرشد إلى تقبّل العمل على نشر العربية الفصيحة، بمعنى الحد الأدنى من الفصاحة مع الاحتفاظ بالصواب؛ إذ هو الهدف الأقرب إلى التحقيق، ومن الصعوبة بمكان أن نضع الفصحى هدفًا. والملاحظ في لغة الصحافة أن أخطاءها تنتج في الغالب عن عدَّة أسباب، منها:
1- الضعف العام للسَّليقة اللغوية ، الذي لا ينجو منه إلا القليل.
2- ضعف نظام التعليم في الدول العربية عامة، وعدم اختيار الطلاب للتخصصات التي يدرسونها بشكل عملي مدروس.
3- أنَّ مناهج الدراسة التي يدرسها خريجو كليات الإعلام تساهم في ترسيخ ذلك الضعف، وليس فيها ما يمكن أن يعالجه أو يحدَّ من آثاره.
4- إقبال الإعلاميين عمومًا ـ والصحفيِّين خصوصًا ـ على الترجمة من مصادر المعلومات الغربية، وجرأتهم على الترجمة كما يعنُّ لهم، من غير استعانة باللغويين، وانبتات صلتهم بالجامعات ومراكز البحث، فضلاً عن المجامع اللغوية وما لها من قرارات فيما يخصُّ الترجمة، بل إنَّ بعض العاملين في الصحافة قد لا يُدرك نشاط المجامع وجهودها في مجال الترجمة.
5- الاستعانة بغير المتخصِّصين في مجال (المراجعة اللغوية) داخل الصحف، نظرًا لعدم وجود ضوابط لتنظيمها.
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الأخطاء اللغوية في الصحافة الناتجة عن الترجمة الارتجاليَّة، كاستخدام تعبير (القوَّتان الأعظم) في الصحافة، حيث يأتي الوصف غير مطابق للموصوف المقترن بـ(أل)، ترجمةً ركيكةً للمصطلح الإنجليزي المقابل (The Two super-powers)، والصورة الفصيحة لذلك التعبير أن يأتي الوصف مطابقًا للموصوف فيُقال: (القوتان العُظمَيان)، وهذه من البدَهيَّات التي يدركها أصغر طالب يدرس اللغة العربية، فضلاً عن أن تحتاج إلى مراكز البحث أو المجامع اللغوية.
ومنها أيضًا استعمال الكاف في قول القائل: " التي تُعرَف كمنطقة"؛ إذ هو مأخوذ مما يقال ويكتب في اللغات الغربية، وهي ليست كاف التشبيه في العربية ، غير أنها دخلت هذه العربية المعاصرة وشاع استعمالها، وكذا قولهم: "في إطار الخطط"؛ حيث هو من التعابـير الجديدة التي تومئ إلى أصلـها في لغـات أعجمية غربية، وقولهم كذلك: "من خلال" ترجمةً لكلمة إنجليزية هي "Through".
وفي الختام أشير إلى بعض النقاط المهمة؛ تلخيصًا لما سبق:
فمما سبق عرضه يتضح:
1- أنَّ المناهج الدراسية المعتمدة في كليات الإعلام مسؤولة بشكل مباشر عن ضعف اللغة العربية في وسائل الإعلام.
2- أنَّ انعزال الصحافة عن المؤسسات العلمية اللغوية أدى إلى انحدار مستواها اللغوي ، مع كونها من أهمِّ وسائل التأثير في اللغة لدى المجتمع.
3- أنَّ غياب القوانين الخاصة بحماية اللغة العربية ـ سواء من ناحية التشريع أو من ناحية التنفيذ ـ سببٌ في الفوضى اللغوية السائدة، وبخاصة في مجال الإعلان.
ومن المقترحات التي تساهم في حل هذه المشكلة:
1- تعديل مناهج كليات الإعلام، وإقرار إدخال اللغة العربية إليها بكثافة، بحيث تكون مواد اللغة العربية في تلك الكليات إحدى معايير الجودة.
2- تعديل مناهج أقسام اللغة العربية أيضًا، بوضع مقررات تربط الطالب بالمجتمع وفئاته المختلفة، وتسهم في تأهيله لسوق العمل، ومن المقررات المقترحة: الأخطاء اللغوية الشائعة، وقرارات مجامع اللغة العربية.
3- عناية الهيئات الإذاعية بتقديم عدد مكثف من البرامج التي تُعنى بشؤون اللغة العربية، والحرص على جعلها على مستوى رفيع.
4- ربط المؤسسات الصحفية بمجامع اللغة العربية، عن طريق مكتب اتصال لغوي يتولَّى تعميم ما يستجد من قرارات المجامع، ويضع دورات خاصة بالصحفيين تركز على الأخطاء اللغوية الشائعة وردها إلى الصواب، وكذلك العناية بالترجمة السليمة.
5- تنظيم وظيفة (المراجع اللغوي) وما يشابهها، وإنشاء جمعية خاصة بها؛ لتحقيق ذلك التنظيم بضوابطه المعتمدة، وحماية الوظيفة من الدخلاء، وحفظ الحقوق للمشتغلين بها؛ تشجيعًا للمؤهَّلين وأصحاب السليقة اللغوية العاملين في ذلك المجال.
6- تفعيل التعاون بين أقسام اللغة العربية في الجامعات من ناحية، والهيئات الرسمية للدولة ووسائل الإعلام، عن طريق عدد من الوسائل، منها:
أ‌. إنشاء مكتب لغوي في كل جهة من تلك الجهات، يتولَّى مهمة التدقيق اللغوي للمستندات الرسمية الصادرة، على غرار المكاتب الإعلامية.
ب‌. إجراء دورات تهدف إلى تنمية الملكة اللغوية لمنسوبي تلك الجهات، من الناحية الصوتية لتنمية فصاحة اللسان، ومن الناحية الكتابية لتقليل حجم الأخطاء الإملائية والأسلوبية.
ج. إنشاء لجان تختصُّ بتدقيق اللوحات الإعلانية ، والإشراف على محلات الخطاطين والرسامين والمصممين، برسوم ميسَّرة، بحيث تشكِّل تلك الرسوم موردًا يموِّل ما ورد في البند (أ) والبند (ج) المذكورَين.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]