منذ سنوات ليست ببعيدة، تنبأ كثيرون باندلاع حرب عالمية ثالثة، تعصف بكل مقدرات شعوب العالم وحضارته وتاريخه ومبادئه، كل على حدة. حيث يتوقع أن تتم على نطاق عالمي مع تكهنات متعددة في أن تصبح حربا نووية ومدمرة للطبيعة.
يقول هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأميركي السابق"إنّ نُذُر الحرب العالمية الثالثة بدت في الأفق وطرفاها هم الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا وإيران من جهة أخرى، إنَّ ما يجري الآن- في اشارة الى الاحداث الجارية- هو تمهيد لهذه الحرب التي ستكون شديدة القسوة.
السينما أيضا، شاركت في تصور هذه الحرب التى تم التقييم لها وتخيل تأثيراتها من قبل عدد من السلطات المدنية والعسكرية، حيث تم تصويرها في عدد من الأفلام والبحوث في عدة بلدان، وتضمنت استخداماً محدوداً للقنابل الذرية التي قد تؤدي إلى تدمير الكوكب.
هوليوود لم تتوقف عند مرحلة تخيل هذه الحرب بل تخطتها وعملت على تصور فيما بعد نهاية العالم ايا كانت أسبابه من كارثة وجودية محتملة مثل حرب نووية أو هجوم من الفضاء الخارجي أو تأثير اصطدام جسم غريب أو ثورة تقنية أو تفرد تقني أو تفسخ عرقي أو ظواهر خارقة أو حكم إلهي أو تغير المناخ (نضوب مصدر للحياة) أو أي كارثة أخرى.
السيناريست والمخرج الأسترالي جورج ميللر، يصور لنا كيف هي الحياة على كوكب الأرض بعد الخراب ونهاية العالم على نحو مأساوي، وذلك في جزء جديد من أشهر سلسلة اسطورية لافلام الحركة والاثارة Mad Max التي اطلقها للمرة الاولى عام 1979، واطلق من خلالها نجومية ميل جيبسون، وعرفت شهرة كبيرة في الثمانينات.
ماكس المجنون: طريق الغضب (Mad Max: Fury Road) : فيلم أكشن أسترالي من انتاج مخرجه جورج ميللر، ويعد الفيلم الجزء الرابع من السلسلة الشهيرة كما أشرنا سابقا، ولمن لا يعرفها فهي تعد واحدة من أفضل سلاسل السينما المستوحاة من أفكار الدستوبيا والعالم بعد الخراب، حيث عالم مستقبلي انهارت فيه الحضارة، يعاني العديد من الكوارث والأمراض، ويعيش فيه البشر في ظل فوضى تامة، تنتشر فيها الجريمة والعصابات.
ينجح الأسترالي المخضرم ميللر صاحب السبعين عاما، في اجبار مشاهدي الفيلم دون استثناء على رفع القبعة احتراما له والتصفيق له بحرارة، لما يحويه الشريط من سحر في مشهديته وازياء ومكياج فج وموسيقى صاخبة ومناخ متوحش واجواء متفجرة بالجنون والقسوة لكن مضبوطة من اول الشريط إلى آخره.
يقدم لنا ميللر جرعات أكشن عالية، تركيبة من المطاردات العنيفة المتواصلة مع حركات استعراضية من دون مبالغات في استخدام المؤثرات الرقمية وتصوير تمّ بتقنية الـ 3D، تُسترسل بلا توقف لكي لا نتمكن من أخذ أنفاسنا وذلك باستخدام طريقة الأكشن القديمة المحببة التي ذات المصداقية والنكهة الخاصة.
يتميز ميللر دون غيره بفلسفة خاصة في سينما الاكشن، وفي السلسلة بالأخص، والتي استمدها من جملة شهيرة للمخرج ألفريد هتشكوك :"أرغب دائما في صناعة فيلم يمكن مشاهدته وفهمه لأي جمهور في أي مكان بدون الحاجة لترجمة". يُكمل ميللر هذه الفلسفة بجملة مأثورة :"أحب أفلام الأكشن. بالنسبة لي فإن أكثر اللغات السينمائية انتشارا وفهما، وأنقى بناء للجُمل، يوجد دائما في أفلام الأكشن".
ويظل أروع ما بالفيلم، هو ابتعاد ميلر عن الظلام وعن التركيبة اللونية الرمادية المكررة في أفلام الدستوبيا، واختياره تركيبة ألوان زاهية للأزرق والبرتقالي الأحمر (لون ناري جحيمي)، جزء كبير من هذا التميز اللوني نابع من اختيار مدير التصوير صاحب الأوسكار جون سيل، العائد من الاعتزال الرسمي في 2010 من أجل عيون ماكس المجنون خصيصا، ليصور فيه أفضل إنجازاته على الإطلاق في صحراء ناميبيا.
الفيلم من بطولة الفنان الانجليزي الصاعد والمتميز، توم هاردي، يجسد دور بطل الفيلم (ماكس روكاتانسكي)، وكما هو متوقع كان استبدال ميل جيبسون مهمة صعبة جدا. ولكن هاردي اختيار موفق للدور، حيث يتألق بالأخص في الثلث الأول والأخير من الفيلم، مستخدما العينين فقط، ليذكرنا ثانية بدور الشرير بين الذي قدمه في " The Dark Knight Rises " 2012 .
الفيلم أيضاً من بطولة الممثلة الجميلة صاحبة الجذور الجنوب إفريقية، تشارليز ثيرون، التى تسحب البساط من أسفل قدمي ماكس بشخصية (فيوريوسا) الثائرة، لتصبح هي في الصدارة بكل قوتها الجسدية وحضورها الجذاب والانثوي رغم شعر رأسها المحلوق وعضلاتها البارزة وغضبها الساطع .
ولولا عنوان الفيلم من الاساس (ماكس) لأصبحت فيوريوسا ربما الأقرب للشخصية الرئيسية. والسبب أن ميللر أراد في مرحلة ما تنفيذ فيلمين في وقتٍ واحد بشخصيات مختلفة، لولا اعتراض شركة ورانر، فانتهى بدمج، منح شخصيتها مساحة أكبر وأكبر.
يشارك في بطولة الفيلم، كل من هيو كييس- بيرن بدور الديكتاتور (جو) ، نيكولاس هولت ، وهو مفاجأة الشريط، حيث اتيحت له مساحة تمكن من احتوائها بكل احترافية مؤديا اداء مشهديا مميزا في دور(نوكس)، أحد جنود جو، الذين يسعون جميعهم لنيل رضائه، عبر التضحية بحياتهم. وأخيرا وليس اخرا روزي هنتنغتون وايتلي في دور (أنغراد) زوجة العجوز المفضلة.
تلقى الفيلم مراجعات واشادات ايجابية ممتازة وقال عنه بعض النقاد انه اعاد سلسلة ماكس إلى الحياة بنشاط عاصف، بلغت تكاليف انتاجه نحو 150 مليون دولار في حين تخطت ايراداته بشباك التذاكر العالمية حاجز الـ 250 مليون دولار اميركي.

...................................

احداث (ماكس)

بعد نهاية العالم على نحو مأساوي، تجتاح الأرض فوضى عارمة وتشرذم، ويحتدم بها القتال على 3 عناصر نادرة وثمينة (الماء – الوقود – ذخيرة السلاح )، ليعود البشر الى وحشية العصور الاولى.
وفي إحدى الصحاري المقفرة، نلتقي بماكس الذي يعرف بنفسه لمن لم يتسنى له مشاهدته في الاجزاء السابقة ويقول "أنا الشخص الذي يهرب من الموتى والاحياء، مُطارد من قبل (النباشين) ومُطارد من مَن لم استطع حمايتهم، لذا انا موجود في أرض الضياع تلك، رجُل تحركه غريزة واحدة .. النجاة "
ماكس وهو الشاب سجين ماضيه وذكرياته، كان يعمل شرطيا فيما مضى، وفقد أسرته الذين ذهبوا ضحية طغيان الفوضى والدمار الذي لحق بالعالم بعد الحروب الطاحنة ، لم يعد يحركه دافع في العالم إلا غريزة البقاء، وهو نفس دافع أغلب شخصيات الشريط، بعضهم عنيف ويبحث عن البقاء والخلود بترك أبناء أصحاء، بعضهم برىء ويبحث عن البقاء بالانتقال إلى بداية جديدة في أرض أفضل، بعضهم غبي ومُسخر ومُبرمج لخدمة الآخرين بدوافع العبادة والمقدسات، ويبحث عن البقاء والخلود بالموت في ميدان القتال، ونيل الشهادة للانتقال إلى الفردوس، على حسب معتقداتهم وكما قيل لهم.

...................................

الديكتاتور العجوز و فيوريوسا

جو العجوز، الديكتاتور الدموي، الذي يسيطر على الماء والنفط، ويحول الناس عبيدا يعملون في خدمته، يرتدي درعا بتقسيم عضلي وكأنه يحاول أن يبين لجنوده وخدمه السذج انه شاب سليم قوي البنية. له العديد من الزوجات لكي تنجبن له أطفال أصحاء، مساعدته ويده اليمنى، التى تساعده في نقل تلك الثروات، هي الشابة القوية فيوريوسا، التى تخطط للانقلاب عليه والخلاص من بطشه، والعودة الى موطنها حيث اختُطفت وهي طفلة صغيرة.
في تلك الأثناء يتم أسر ماكس من قبل جنود جو المصابين كلهم بعيوب أو تشوهات شكلية، وأغلبهم دماؤهم ملوثة، حيث يحتفظون بالأصحاء من البشر، ويقوموا بامتصاص دمائهم الطازجة لينعشوا بها أنفسهم ويحافظوا على سلالتهم .
...................................

الى طريق الغضب

تتمكن فيوريوسا من تسديد صفعة موجعة لجو، وتخطف زوجاته الخمس الأسيرات اللاتي يبحثن أيضا عن الأمل، وتنطلق بشاحنة صهريج وقود. ولكن الاخير ينطلق وراءها ومعه جيوشه بمدرعاتهم الضخمة المصفحة المليئة بشعارات الجماجم وموسيقاهم الصخبة المحفزة لزيادة شهية القتال.
وعلى وقع مطاردات جنونية وانفجارات جحيمية عبر صحارى مترامية الأطراف، يحرر ماكس نفسه من عصابات جو وينضم لفريق فيوريوسا، لأنه لا يمتلك غير ذلك حلا وخلاصا.
...................................

الخلاص

بعد أن يقطعوا مئات الكيلومترات عبر الصحراء، تكتشف فيوريوسا أنها كانت تسعى وراء سراب (المكان الاخضر) في اشارة إلى موطنها، وتلتقى بعشيرتها بعد أن هاموا في الصحراء، وشحبت وجوههم وجفت حناجرهم، فتقرر أن تكمل معهم مسيرتهم للبحث عن الماء. ولكن ماكس يدلهم على طريق الخلاص ويحثهم على العودة ومواجهة جو وعصابته.
من جديد تشتعل أجواء المطاردة، ولكن تلك المرة ينضم لفريق الثوار، نوكس وهو احد جنود جو، الذي يساعدهم بدرايته الكبيرة في أمور السيارات والمحركات، هذا بالاضافة الى قريبات فيوريوسا القناصات اللاتي يذهبن بحثا عن بداية جديدة.
وبعد معركة دامية مع الشر، يأتي الخلاص وتنتهي امبراطورية الاستبداد بمقتل ديكتاتورها جو، وليحيا ماكس وفيوريوسا وجميع الثوار .
نحن أمام فيلم احترافي عالي الجودة، أكشن يجبرنا أن نحذف عشرات الأفلام الأخرى من هذا التصنيف، واستطيع القول إن المبدع جورج ميللر عاد بعد غياب 30 عاما، ليصب نيران جنونه في ثورة عارمة متواصلة لمدة ساعتين، تكفي لحرق باقي المنافسين طوال الصيف، فهو من أفضل افلام الاكشن التى شاهدتها في حياتي. 15 عاما من التحضير المستمر، منذ أن تم إلغاء تصوير الفيلم في 2001 مع ميل جيبسون بعد هجمات سبتمبر، لم تذهب هباءً.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]