[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
”إن الصراع بين البشر والدول والثقافات نشأ مع الإنسان، ولم يكن وليد الأمس، فقد فرضته طبيعة الناس والحياة وحب التملك والتمدد والتوسع والهيمنة والسيطرة على الآخرين .. وللدول والقوى مصالح وغابات يتسع نطاق تنفيذها من إطارها المحلي والجغرافي لما هو أبعد من ذلك بكثير، وهي تتصارع فيما بينها للهيمنة على مواقع ودول وشعوب أخرى، ”
ــــــــــــــــــــــــــ
يتساءل الكثيرون بنوع من الاستغراب المفرط في التشاؤم عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف رسم المشهد القاتم في العالم العربي، والتي توجه سير الأحداث وتقود شخوصه أو أبطاله لإحداث المزيد من الخراب والقتل والتدمير والتشرذم، وتأجيج الصراعات والفتن المذهبية والعرقية، والإهدار المتعمد للعقول والأفكار النهضوية الإصلاحية والثروات والمقومات والقيم، ومعها كل إرث حضاري ينبض بالحياة في الأرض العربية؟ ما هذا الذي يحدث؟ ولماذا يحدث أصلاً؟ ما هي أسبابه ومبرراته؟ ولماذا ظلت الصراعات والانشقاقات والتكالب على الحكم وقمع الرأي المخالف والانقلابات والثورات المتتابعة وممارسة أعمال الإرهاب تلاحق وتلازم العرب دونا عن غيرهم؟ وإلى متى سيظل هذا الجنون المفرط يلقي بظلاله السوداء على البلدان العربية؟ كيف تتمكن المنظمات الإرهابية من استقطاب شباب وشابات بعمر الزهور وبعضهم تلقى تعليمه في أرقى جامعات العالم ويعيش حياة ازدهار وحرية ونجاح وتجندهم لقتل الناس الأبرياء في الشوارع والأسواق ودور العبادة، وتفخيخ أنفسهم وتقديمها نذوراً بشرية لأهداف وغايات لا يستسيغها عقل ولا منطق ولا يقرها شرع ولا قانون، أو ليس ذلك هو العبث الإنساني في أسوأ صوره؟.
إثر تلك التساؤلات وبعدها وبموازاتها تقدم الإجابات المعلبة والتحليلات المعدة والجاهزة، فتحتدم المناقشات وتحتد الحوارات، لتصل بالمتحاورين إلى الخلافات العميقة، يعقبها الصراخ واللكم واستخدام الأيدي والكراسي والأرجل لإسكات الصوت المعارض وإلى فشل الحوار وهو في بداياته، لتثبت أن العرب لا يطيقون الرأي الآخر من بينهم، وهم على استعداد لقمع كل من يخالفهم، ولا يقبلون إلاّ بما يتوافق مع هواهم وميولهم، فيضعنا المشهد أمام المعضلة الحقيقية للعرب، معلنا عن السبب الرئيسي لجميع أزماتهم ومشكلاتهم، وفي إناء من ذهب لا يتطلب جهدا ولا تعبا وشقاء تتجسد الإجابة التي شغلتنا وما زالت لقرون، ولكننا مع ذلك نتجاهلها ونتجاوزها، فذهنيًّا وقناعة استقرت نظرية المؤامرة في فكرنا وظلت العنوان الأبرز الذي يرتاح إليه الجميع وتركن إليه العقول وإن غابت التفاصيل والأسانيد والقرائن والدلائل، وإن تعارضت دقائق المشهد ومسار الأحداث وأبطاله مع مفهوم هذه النظرية التي حملها وتوارثها العرب جيلاً بعد آخر منذ أحداث سقيفة بني ساعدة مروراً بحروبهم المتتابعة وحتى اليوم، وأنابت المناقشات والأسئلة العميقة (كيف ولماذا وما الهدف والآليات ..الخ) عن تباينات تسقط نظرية المؤامرة بالصورة التي يروج لها أغلبية العرب، فمع ذلك ترتفع حظوظ هذه النظرية وتتقدم على كل التفسيرات والأسباب والعوامل الأخرى، لأن العقل العربي احتضنها وآمن بها، ولأنه لا يريد أن يعترف بأن الخلل في العرب أنفسهم، في تاريخهم المتخم بالصراعات والحروب والانشقاقات والخيانات والمؤامرات الداخلية، والمضي قدما في الاستعانة بالخارج على الداخل، وثقافتهم العصية على التغيير وعلى الاستفادة من الخبرات والدروس المتتابعة، وسلوكهم الإقصائي، في التباين الواسع بين الأقوال والأفعال والشعارات والممارسات.
أطراف الصراع في العالم العربي بتفرعاتها المتعددة وأيديولوجياتها وتوجهاتها السياسية .. الدينية.. العرقية .. المذهبية .. المناطقية .. يضعون المؤامرة في مركز هذا الصراع تفسيراً وسبباً رئيسيًّا لكل متاعب ومشاكل وهموم وتخلف العرب وصراعاتهم، وكل طرف من هذه الأطراف يكيف المؤامرة ويحدد شخوصها ويصوغ أهدافها والقوى التي تقف خلفها بما يتوافق مع أيديولوجيته وأهدافه، ومن يناصبهم العداء ويستهدفهم من هذا التكييف بشكل يعبر عن السذاجة والسطحية والتخلف .. إن الصراع بين البشر والدول والثقافات نشأ مع الإنسان، ولم يكن وليد الأمس، فقد فرضته طبيعة الناس والحياة وحب التملك والتمدد والتوسع والهيمنة والسيطرة على الآخرين .. وللدول والقوى مصالح وغابات يتسع نطاق تنفيذها من اطارها المحلي والجغرافي لما هو أبعد من ذلك بكثير، وهي تتصارع فيما بينها للهيمنة على مواقع ودول وشعوب أخرى، وهو أمر لا ينكره عاقل، ولا ينفيه إلا السذج، وهي تحيك المؤامرات وتضع المخططات لتحقيق أهدافها ومصالحها .. ولكن بمعزل تام عن الرؤية والكيفية والأسلوب والشكل الذي نروج له ونضعه في حساباتنا ونسقطه على أوضاعنا، فنضع من المؤامرة قدراً لا فكاك منه ونكيفها بما تتوافق مع رؤيتنا وثقافتنا وتناسب مستوى تفكيرنا وبما لا يقبله العقل السليم، إذ إن معظم ما ندخله ونفسره من أحداث وأعمال في إطار المؤامرة إنما يتعارض مع مصالح تلك القوى التي نتهمها ومع نظمها السياسية وقيمها الديمقراطية، ويصعب عليها بل يستحيل أن تضطلع بها فتصيب النجاح إلا بتعاون منا أو مشاركة أطراف فينا هذا إن سلمنا بها أصلاً .. إن نظرية المؤامرة باتت جزءاً من تاريخنا وثقافتنا ورثناها جيلاً أثر جيل منذ صدر الإسلام والعدو هو العدو والعرب ضحايا مؤامراته لا يملكون فكاكاً منها، إنها القدر الذي أصابنا فأحاط بنا من كل صوب .. اليهود .. المغول .. التتار .. الصليبيين .. العثمانيون .. الاستعمار الغربي .. الإيرانيون الفرس .. أميركا .. إسرائيل .. الخ .. والسؤال الذي يطرح نفسه إن سلمنا بنظرية المؤامرة وما تحققه من نجاحات باهرة لصالح الأعداء وتدمير لمقدراتنا، فكيف تنفذ؟ مع ما تتطلبه من جيوش من البشر وأموال طائلة ودعم متعدد الأوجه وتنسيق موسع ومتواصل يصعب إخفاؤه؟ وأين رسمت هذه المؤامرات غاياتها وكيف تمكنت من تحقيق أهدافها؟ أليس ذلك بتعاوننا وخيانتنا لبعضنا البعض وبأموالنا ومؤامراتنا وفساد مناهجنا وثقافتنا وخطابنا وثقتنا في هذا العدو المتآمر واستجدائه وانهيار هذه الثقة في الأخ والصديق والشريك ... الخ ؟ .
إن ما تمر به معظم الدول العربية من محن إنسانية وصراعات وقلاقل داخلية وانهيار للبنى التحتية وخلافات سياسية عميقة تعبر عن الجهل والتخلف وهي نتاج طبيعي للفقر والبطالة والفساد وغياب الديمقراطية وقيمها الإنسانية المتمثلة في العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة وتطبيق القانون .. وتداخل وتبادل وتشابك المصالح والمنافع بين النخب الحاكمة في العالم العربي وما دخل في نطاقها من قطاعات ومؤسسات رسمية دينية وتعليمية وتشريعية وقضائية ومدنية ... والتي لم تتمكن من الاستقلالية وممارسة عملها بعيداً عن هيمنة ورقابة وعبث تلك النخب، فظل دورها شكليًّا طوال العقود الماضية من عمر الأنظمة العربية التي مارست القمع والظلم والهيمنة وغرقت في مستنقع الفساد بمختلف أشكاله وصوره، مع غياب واضح لمصالح المجتمع وانصراف كامل عن تحقيق متطلباته واحتياجاته وإهمال متعمد في سياساتها العامة وخططها وبرامجها العشرية والخمسية لإصلاح التعليم وتحسين معيشة المجتمع وتحقيق الرفاهية وترسيخ قيم العدالة والمساواة والتسامح والتعايش ... فمن أجل مصلحة النظام وضمان استمراريته وبقائه في السلطة وتوريثه الحكم لأبنائه والموالين له عمل على بث الفتنة بين شرائح المجتمع وترسيخ المذهبية والشحن الطائفي بين مكونات الشعب، ففسدت الأذواق والعقول وأنظمة التعليم ومناهجه واستثمر الدين لتكريس مصالح النخب الحاكمة وعلماء السلطة وأولت نصوصه بما يتوافق مع سياساتها في تعزيز الهيمنة والنفوذ والقوة وقمع الأصوات المعارضة ... هذا المشهد الذي استمر وألقى بظلاله على العالم العربي لما يزيد على نصف قرن من الزمن، والذي ساهم الجميع بشكل أو بآخر في تشكله بالصمت خوفا وجبنا أو المساهمة المباشرة طمعا وتحقيقا لمصلحة، وعيا أو جهلا، قليلا أو كثيرا .. إنما نجني ثماره الآن فوضى عارمة وصراعا مدمرا وغيابا لصوت العقل والحكمة تشهده معظم البلدان العربية، ولا ننتظر تصحيحا وإصلاحا ونهضة وتقدما وعودة إلى العقل والحوار إلا بتقييم موضوعي ونقد دقيق ورؤية عميقة وشعور بالذنب واعتراف بالأخطاء وتحرر من هيمنة وتبعيىة الآخر والتوقف أو التخلص من الانجرار وراء نظرية المؤامرة واسقاطها على كل الأحداث والأوضاع والأعمال في منطقتنا.