[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لم تكن جريمة الحرب الإسرائيلية بحرق الطفل "علي دوابشة" البالغ من العمر عامًا ونصفًا في بلدة دوما بنابلس، وانتهاك حرمة المسجد الأقصى، سوى غيض من فيض جرائم حرب ماضية وأخرى لاحقة، ذلك أن هذه الجرائم أولًا هي متجذرة في الثقافة الصهيونية وفي التكوين النفسي للشخصية الصهيونية المتوحشة المتعطشة دائمًا إلى الدماء، وثانيًا أنها الأسلوب الأنجح في الفهم الإلغائي والثقافة الإقصائية لدى الصهيونية في تعبيد طريق التخلص من الوجود العربي الفلسطيني من أرض فلسطين، وبلوغ الحلم التلمودي بتحقيق المستعمرة الكبرى المسماة "إسرائيل" من الفرات إلى النيل وعاصمتها الأبدية القدس. فحرق الطفل دوابشة يأتي في إطار القضاء على الوجود الفلسطيني والذي يجب أن يبدأ بالأطفال؛ لأن تركهم يقضون آجالهم يعني استمرار الهم والوجع لدى المحتل الإسرائيلي ببقاء الشخوص والشواهد الدالة على فلسطين العروبة والتاريخ والحضارة وحقيقة القضية الفلسطينية من ناحية، وبقاء اسم فلسطين في الذاكرة الجمعية العربية والفلسطينية من ناحية أخرى، ما يعني ذلك استمرار التعلق الفلسطيني والعربي واستمرار النضال لاستعادة فلسطين المغتصبة، فضلًا عن أن عدم القضاء على أجيال الأطفال الفلسطينيين يعني التفوق الديمغرافي الفلسطيني على قطعان المستوطنين الذين يعمل كيان الاحتلال الإسرائيلي وحلفاؤه وعملاؤه على تربيتها وتسمينها في زرائب وحظائر المغتصبات من المستعمرات في الضفة الغربية والقدس المحتلة. ولعل العدوان الإرهابي الإسرائيلي الأخير في 2014 يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن استهداف الأطفال يأتي في صلب أي مشروع جرائم حرب يعتزم تنفيذه كيان الاحتلال داخل فلسطين أو خارجها، على النحو المشاهد الآن بحق أطفال سوريا والعراق وليبيا ولبنان واليمن وغيرها، حيث الاستهداف الممنهج للأطفال يتصدر مؤامرة تفتيت دول المنطقة وخاصة الدول التي قدمت تضحيات عظيمة ولا تزال، ووقفت في وجه الاحتلال الإسرائيلي وغطرسته، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته، كما هو حال سوريا والعراق. وحسب الإحصاءات الصادرة والموثقة للعدوان الإرهابي الإسرائيلي على قطاع غزة فإن ثلث الضحايا كانوا من الأطفال، حيث ألقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال ـ فلسطين، في تقرير لها بعنوان "عملية الجرف الصامد: حرب تُشن على الأطفال"، الضوء على الثمن الباهظ الذي دفعه الأطفال الفلسطينيون بسبب العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة صيف العام الفائت.
واستندت الحركة إلى معطيات مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، التي أكدت أن العدوان المسمى "الجرف الصامد" الذي استمر 50 يومًا بين الـ8 من يوليو والـ26 من أغسطس 2014، أودى بحياة 2220 فلسطينيًّا، من بينهم 1492 مدنيًّا على الأقل. وقالت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال ـ فلسطين، إنها تحققت بشكل مهني ومستقل من استشهاد 547 طفلًا فلسطينيًّا خلالها، من بينهم 535 طفلًا استشهدوا نتيجة للهجمات الإسرائيلية المباشرة عليهم، وإن نحو 68% من الأطفال الذين استشهدوا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي لا تتجاوز أعمارهم 12 عامًا.
إن الواقع الفلسطيني يشهد اليوم حالة انكشاف غير مسبوقة لمخططات التصفية للقضية الفلسطينية ولأبطال هذه التصفية، وما كان لهذا الواقع أن يشهد ذلك لولا المؤامرة الكونية على سوريا التي أسقطت آخر أوراق التوت عن الأعراب والمستعربين والإسلامويين وسوءاتهم الذين أعطوا المشاريع التصفوية الإسرائيلية قوة دفع أكبر لخوض ماراثون التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، بالإضافات السابقة والمتممات اللاحقة، حيث بلغ التظهير والتشبيك في أوضح وأوضع صوره، فتمكن كيان الاحتلال الإسرائيلي عبر الأعراب والمستعربين والمرتزقة والإسلامويين الحاملين لرايات الإرهاب وسواطيره بخلفياته التاريخية والأيديولوجية من حشد الطاقات والإمكانات وأدوات الضغط والابتزاز المعلنة والمخفية، داخل القاعات وخارجها، تحت الأضواء وبعيدًا عنها، فلم يكن أسلوب الحرق الداعشي والصهيوني إلا دليلًا إضافيًّا على ذلك الترابط والتشبيك وعلاقة الأمومة والأبوة.
وفي خلفية مشهد الواقع الفلسطيني، يراهن كيان الاحتلال الإسرائيلي على أن تداعي الأوضاع الفلسطينية والعربية، وخضوع رقبة المنطقة تحت ساطور الإرهاب المدعوم صهيونيًّا وغربيًّا ومن بعض الأعراب والمستعربين والمرتزقة والإسلامويين وانشغال جميع حلفاء الاحتلال وعملائه بالملفات الساخنة مثل الملفات السورية والعراقية والليبية والمصرية واللبنانية واليمنية وغيرها، وكذلك ملف الاتفاق النووي الإيراني، أن كل ذلك يمثل فرصة ذهبية لتمرير مشروع استكمال تصفية القضية الفلسطينية واستكمال تهويد القدس نهائيًّا وشطب هويتها العربية الفلسطينية، الإسلامية ـ المسيحية، بعدما قطع الاحتلال الإسرائيلي أشواطًا كبيرة على طريق تغيير الخريطة الديمغرافية للقدس الشرقية، من خلال عمليات الاستيطان المكثفة فيها، وفصلها عن جوارها في باقي أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967.
اليوم ونحن نعيش هذا الراهن المرير، ويعتصرنا الألم، تبدو في خلفية مشهده أيضًا العبارة الشهيرة التي قالتها رئيسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي بُعيْدَ حرق المسجد الأقصى عام 1969: "لم أنم ليلتها وأنا أتخيل العرب سيدخلون "إسرائيل" أفواجًا من كل صوب، لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة". أما اليوم فأطفال فلسطين يحرقون والمسجد الأقصى إلى خراب ودمار وتدنيس ومجرمو الحرب الإسرائيليون وفي مقدمتهم نتنياهو ينامون قريري العين. وما دام الوضع كذلك، فليس أمام الشعب الفلسطيني المرابط سوى الاعتماد على ذاته، وأضعف الإيمان إزاء ذلك قيامه بانتفاضة ثالثة لتعرية جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولعل يكون فيها الخير لإيقاظ الأمة النائمة، ولإيقاظ الضمائر الميتة لدى سوادها الأعظم.