ابن التسعين سنة مازال يغني على المسرح
علينا الانتصار على رقم الولادة في الهوية

لم أصدق وأنا أراه يكرج على المسرح كشاب صغير في ريعان صباه .. ربما لأنه غاب طويلا عن السمع والبصر لكنه كان نجما متألقا في بلده فرنسا .. جلست أتأمل الأمل المعقود في جبينه، وخصوصا عندما عرفت أنه تجاوز التسعين من العمر، لكن صوته ظل شاديا، وحضوره كان طاغيا .. ظل يغني ويغني ساعات، بل يقفز من مكان الى آخر، يحمل الميكروفون في يده، يداعب الكلمات بلغته الأم الفرنسية، يحاول أن يمرر بعض الكلمات العربية ليتقرب من مستمعيه.
جاء المغني الفرنسي شارل أزنافور الى لبنان هذا الصيف ليغني في احد مهرجاناته العديدة هذا العام .. شعور اللبنانيين أن بلدهم محيد عن الصراعات، فلماذا لايفرح أناسه، ولماذا لايرقصون ويهيصون، رغم ان ازماتهم الداخلية عديدة، من عدم انتخاب رئيس للجمهورية، الى الفساد المستشري، الى النفايات التي تملأ الشوارع ...
حاولت متابعة هذا المغني الذي نسيناه تقريبا، بل لم نعد نتذكر انه حي نظرا لتجربته الطويلة في الغناء. وحين اعترف ان عمره واحد وتسعون سنة، اسقط في يدي، لكني رأيت فيه نموذجا لمعنى الحياة التي يمكن لنا خلالها أن نعيش كما عاش وأن نتأمل كما تأمل، فقد ظل يغني للحب، يقول كلماته كدلع شبابي، ويرصفها كحالم مازال في مطلع شبابه.
لم أزل متأثرا بهذا المغني الموهوب صحة وعافية وصوتا وقدرة على الحركة وفهما للحياة من خلال تجربة السنين. أيقظ بي احساسا دافقا، بأن العمر مجرد سنين مكتوبة في سجل الهوية، لكن الحقيقة أنه رقم آخر في جسد المرء وفي عقله وفي انسانيته .. يمكن لأي منا ان يجعل من عمره المكتوب غيره في الاحساس وفي الممارسة .. هنالك من يشيخ من الداخل قبل ان تظهر بوادره من الخارج ، وهنالك ، من يوقظ شمعة الشباب في داخله، فتظل مشتعلة عمرا.
صحيح أن الطب انتصر لاضفاء سنوات على حياتنا، لكن الحالة النفسية للمرء هي التي تزرع الاحساس بالحياة .. وصحيح ان الانسان انتصر على امراض شتى كانت في الماضي سببا في موته المبكر، لكنه ايضا عاش انتصار الشباب يوم اصر على ان يعيشه أملا، حبا لذاته وللناس، جزءا من خلية اجتماعية تتحرك من اجل الآخر، الانسان الاجتماعي يملك قابلية البقاء طويلا ، لأن الوحدة ضرر على النفس ومقتلة مبكرة.
حملني شارل ازنافور الى دنيا كنت اوصدت الباب بوجهها وهي ألفة الحياة ، رغم معرفتي لها .. زرع هذا المغني الأمل في احساسي وفي عقلي، فاعدت ترتيب اولوليات الحياة، بعدما سحقتها الاوضاع السائدة في عالمنا العربي، وشعور الخيبة من كل شيء، والاحباط الناتج عن تلاشي كل آمال عقدناها في السياسة، من امكانية الانتصار القومي او الوطني او حتى الأممي وفي النهاية الديني. سلبتنا الاحداث الجارية في منطقتنا كل أمل باستمرار الحياة التي ظننا انها قد تتغير لكنها قد لاتسبب كارثة كالتي نعيش.
فتح ازنافور باب الرجاء للنفس التواقة الى العيش الرائع كما يقول الشاعر التركي ناظم حكمت .. فما اطيب هذا العيش حيث يقول المثل المصري" ألف عيشة بالكدر ولا نومة تحت الحجر".
نشكر المصادفة التي جاءت بهذا المغني الى لبنان كي نسمع ونرى كيف ينتصر الأمل وتنتصر الروح الشابة على رقم الولادة في الهوية. وفي ظل غنائه الشبابي الذي تتصدره كلمات الحب والعشق والهيام، نتذكر كيف كانت سيدة الغناء العربي أم كلثوم وهي في الستينيات والسبعينيات من عمرها تغني الحب بكل تفاصيله الحلوة والمرة، تغني البعاد في " فات الميعاد " وترفع راية " انت عمري " فوق سارية الحب، وتسأل محبها عن الشوق، وتردد ذلك المقطع الجذاب في " هجرتك " بقولها " هجرتك قلت انسى هواك وودع قلبك القاسي / وقلت أقدر في يوم أسلاك / لقيت روحي في عز هواك / بفكر فيك وأنا ناسي " .. هل نتصور قفلة رائعة كهذه حيث القدرة الهائلة للحب تجعل للمحب قدرة على التذكر وهو ناسي، من النسيان.
تمكنت هذه المطربة الكبيرة من رسم صورة حضارية لحب ينمو بين محبين .. بل هي قربت المسافات بين الرجل والمرأة، لكنها ايضا كانت رمزا لوحدة عربية لأنها جمعت العرب أجمعين على محبتها، في الوقت الذي تمكنت فيه من تحويل الكلمة الى ممارسة .. فلنتصور مثلا حفلاتها التي مازلنا نشاهدها الى اليوم، والعلاقة بينها وبين جمهورها وهي التي عاشت عمرها تغني كل يوم خميس من اول كل شهر .. كانت اسعادا للناس، حالة بهجة ينتظرها مجتمع بأكمله، بل شعوب، منهم من يراها امامه ومنهم من يسمع غناءها.
ومثلها كان محمد عبد الوهاب، هذ الرعيل الذي مر على التاريخ الفني والسياسي والاجتماعي والانساني تاركا فيه بصمات لاتمحى .. فقد أشاع عبد الوهاب حيوية جديدة في الموسيقى وفي اللحن وفي الجملة الموسيقية، حينما اجتمع بأم كلثوم في أغنية " انت عمري " كسر جدارا عمره زمن من القديم، فقد كانت الأغنية حالة موسيقية تلبسها المجتمع العربي وخرج مشبعا بها النتاج المتكامل الذي روى الروح والابدان معا . كان عبد الوهاب اذن ، مفتاحا للنغمة الموسيقية التي تحكي المزج بين روح الطرب والمعاصرة . لكنه كأم كلثوم ، قدم روائعه في الاغنية السياسية ، فلم يكن فقط شارحا لحقائها ، بل واحدا من الذين هزتهم الحياة السياسية للمرحلة الناصرية، فتناغموا معها وقدموها بما يليق بها، تماما كما فعل عبد الحليم حافظ الذي لم يكن مجرد مغن عاطفي وصاحب اداء أخاذ، بل حامل لواء سياسي تمكن باقتدار من شرح ثورة عبد الناصر بكل تفاصيلها الى المجتمع المصري والعربي، دون ان يتخلى عن ان يقول الحب أملا للناس الذين عشقوه في الحالتين، ففي حين كانت الكلمة العاطفية سجلا لاحاسيس المجتمع بكل اطيافه، كان الموقف السياسي في الأغنية رابطا بينه وبين المجتمع ايضا، ولهذا تفوق فنانونا في الزمن الجميل كما يسمى بان كانوا ابناء مجتمع ملتصقين به، وكانت ذاكرتهم الانسانية تهز المشاعر بالحب والعشق وطهر العلاقات بين محبين وما الى ذلك من احاسيس خلاقة.
نصرنا شارل ازنافور وهو يزرع المسرح بقامته التسعينية وبروحه الشابة .. لم استطع الا اعتباره عبرة لذاك المتفائل بالعيش، والمفائلون كلما تقدم بهم العمر كلما ازدادوا حلما .. فمن الضرورة ان نحلم دائما، ان نتخيل ونتصور، الحلم انساني النزعة، لايمكن لنا ان نعيش بدونه، الجدية في الحياة مطلوبة، لكنها احيانا ان لم تكن مرفقة باللين سرعان ما تنكسر، ولكم اعتبر اوسكار وايلد في كتابه " خطورة ان تكون جديا " هذا المفهوم.
عودتي الى المغني ازنافور كوني تمسكت بتجربته التي حكى عنها .. فمثلما تبادر الحياة تبادرك، ان تراها بكآبة ستراك كذلك، وأن تراها أملا ستبعث فيك احساسا مشابها واكثر، فما اضيق العيش لولا فسحة الأمل كما يقول المثل، بل العمر يكاد ان يكون هو الأمل الذي لولاه لما نال المرء ولو بسمة عابرة.
علمنا ازنافور ان لكل عمر معناه وحيويته واسلوبه، ويجب ان تعيشه وتتقبله، اذ لا تنفع المقارنة بين مامضى وبين الآن، فما مضى انقضى تماما ومرت عجلات الزمن عليه ودهسته، اما اللحظة التي تعاش فهي عمر اضافي جميل ممنوح للانسان يمنحه التفكير بالغد فقط دون ان يسلط ذاكرته الى الوراء.
هؤلاء الذين وهبوا الأمل والمتعة والرنين الانساني يصبحون بالتالي ثروة انسانية لأن كل كلمة منهم هي حكمة، وكل جملة موقف للتعلم، وقد حاولت دائما خلال حياتي المهنية الالتحام بهذه الفكرة، كان يهمنى دائما ليس ثقافة الشخص الذي سأحاوره، بل تجربته ومعناها في نفسه، حتى اني حين خاطبت احد المسؤولين الكبار جدا ذات مرة بسؤال عن الحكمة التي خرج بها من تجربته قال جملة مؤثرة بان " الملك هو من لايعرفه الملك".
شارل ازنافور جاء اضاءة على مجتمع لبناني عربي حاملا فلسفة حياة مستمدة من كونه أرمني الأصل فرنسي الهوية والولادة .. اذ لاشك ان مفاهيمه وتقاليده المختلفة عن تقاليدنا ومفاهيمنا وتجاربنا في الحياة تجعل فروقات كبيرة احيانا ، ومع ذلك فثمة عناوين لانختلف عليها ، لكي تعيش طويلا عليك ان تقرره بنفسك، وهذا يعني أن تملك الروح التي لاتشيخ باعتبارها حاضنة للجسد ومثلما هي يكون هو ..
ثم إن هذا المغني الفرنسي الذي نسينا انه مازال على قيد الحياة لأنه ارتبط بطفولتنا وكان يومها شابا، يذكرنا بكبار عاشوا سنين عمره، فحين سألت يوما الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري عن تسعينيته اجابني بثقة غريبة " لقد قررتها بنفسي" ونزلت الجملة علي كالصاعقة يومها. لكني اكتشفت من خلال اعمار آخرين بلغوا هذا السن واكثر انهم لعبوا دورا بلا شك في تطويل اعمارهم من خلال حياتهم النفسية التي جاءت ترجمتها كما ارادوا احيانا .. تماما كجدي الذي عاش مائة واربع سنوات وكان في كل سنة يقول لي هنالك سنة أخرى، وحين وصل الى العمر الذي توفي فيه، سألته عما اذا ان هنالك سنة اخرى فلم يجب، وهذا ما حدث بالفعل.
القوة النفسية اذن عالمنا الذي نرغب ان يكون سلاحنا في مقاومة كل اعتبارات الحياة كما قال ازنافور في احدى مقابلاته .. فلماذا ننسى بالتالي ما ينطبق على ذلك بذاك المثل الذي قاله علي بن ابي طالب من ان " اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا وأعمل لاخرتك كأنك تموت غدا". واجمل انتصار للنفس هو رضاها عما فعلت، وليس في الحياة ميدان لمبارزة الآخرين كما يقول الكاتب الاميركي فوكنر وهذه أحد صمامات الأمان للانسان حين يتخلص من حس الآخر ووجوده عليه.

زهير ماجد