في ندوة نظمتها الجمعية الفلسفية الأردنية بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين

عمّان ـ (العُمانية)
أكد المفكر الأردني هشام غصيب أن الثقافة العربية تعيش في محنة "مزمنة"، بسبب "تصفية العقل وسيطرة اللاعقل منذ العصر الوسيط على الوعي الجمعي" رغم بعض المحاولات النقدية الحديثة لمجابهة هذا الوضع.
وقال في ندوة نظمتها الجمعية الفلسفية الأردنية بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين، وحملت عنوان "الخطاب الثقافي العربي بين عقلانيتين"، إن المشكل الثقافي المزمن الذي نعاني منه لا مثيل له في أيٍّ من الأمم الأخرى، فالأمتان اليابانية والصينية تغلبتا عليه، والأمة الهندية في طريقها إلى ذلك، أما أميركا اللاتينية فقد حررها منه تطورات الثقافة الأوروبية في موطنها الأصلي، فهي تشترك مع أوروبا في اللغة والدين وكثير من العناصر الثقافية.
وأضاف غصيب أن العقل ليس ملكة فردية، فهو يتمظهر في المجتمع والتاريخ والثقافة؛ وآلياته الأساسية هي التفكيك والنقد والتحليل والتركيب. مشيراً إلى أن العقل بحكم جوهره لا يقبل مرجعية له غير ذاته، ولا سلطة غير سلطته، لأن ذلك يعطّله ويلغيه.
وبيّن أن العقل واللاعقل يتمظهران بصورة أساسية في الخطاب الثقافي (الإعلامي والفلسفي والسياسي والتربوي والأخلاقي والعلمي). وميّز بين ثلاثة أنماط من الخطاب، أولها العلمي، الذي يحكم الممارسة العلمية على الفكر بعامة، ويتخذ من العقل العلمي مرجعيته ويستمد منه آلياته ومنطقه ومعاييره. وقد انبثق هذا الخطاب بأبعاده وأعماقه كافة مع الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا.
أما الخطاب ما بعد العلمي، فقد نشأ كما أوضح غصيب، كرد فعل سلبي على الثورة العلمية الكبرى وأسسها الفلسفية. وهو يلجأ إلى تفكيك العقل بالعقل، ويسخّر أدوات العلم الحديث وعقلانيته في مجابهة هذه العقلانية، أي أنه يمثل اللاعقلانية الحداثوية.
والنمط الثالث بحسب غصيب هو الخطاب ما قبل العلمي الذي لم تمسّه الثورة العلمية وعقلانيتها، فمنطقه وآلياته ومناهجه وبناه وأرضياته ما قبل علمية، وهو قد يستر نفسه بقشور حداثوية، لكن قلبه ومضمونه وهيكله ما قبل علمية.
وقال غصيب إن اللون العقلاني من هذا الخطاب ساد في العصور الذهبية للحضارات القديمة ما قبل الرأسمالية (الحضارة الإغريقية، الحضارة العربية الإسلامية، مثلاً)،أما اللون اللاعقلاني فقد ساد في عصور انحطاط الحضارات القديمة وفي الوطن العربي الحديث والمعاصر.
وأوضح غصيب أن هناك دعوات للعودة إلى عقلانية ابن رشد (محمد عابد الجابري مثلاً)، لكنها تغفل الفرق بين العقلانية الميتافيزيقية القديمة والعقلانية العلمية الحديثة، وكون الثانية تتخطى الأولى وتتفوق عليها، وكون الأولى تنتمي إلى الخطاب ما قبل العلمي، ومن ثم تعجز عن تملك عالم اليوم.
ورأى أن ضالّتنا اليوم ينبغي أن تكون تملُّك العقل العلمي والارتقاء بوعينا الجمعي عبر هذا التملك، وهو ما يسمّى "الاستغراب" (نقيض الاستشراق)، وهذه العملية محفوفة بالمخاطر، حيث إنها تتمثل في دفع إرادة التقدم الوعي المفوّت السائد، إلى مجابهة العقل العلمي والحداثة وجهاً لوجه وإدخاله في سلسلة من التفكيك والتركيب على صخرة الحداثة.
وختم غصيب بتأكيده أن الاستغراب "مخاطرة ثقافية روحية كبرى"، لكن لا مفر منه لأمة يكبلها المشكل الثقافي المزمن كأمتنا العربية، بحيث يمكن القول إن الاستغراب هو آلية ثقافية أساسية لإعادة بناء عقل حركة التحرر القومي الهادفة إلى وحدة الأمة العربية واستقلالها وتقدمها وعودتها إلى التاريخ.