تتعالى أحياناً بعض الأصوات مطالبة بالمزيد من الحريات والمشاركة الشعبية من خلال تعزيز الديمقراطية، وشخصيا، لا أجد في ذلك غضاضة، ما دامت تلك المطالبات تتم بشكل سلمي ولا تهدد مصلحة الوطن أو تعمد الإضرار به. ولكني أتساءل أيضا إن كانت هذه الاصوات تعي حقا المعنى الحقيقي لكلمة الديمقراطية، وهل أصحابها مستعدون فعلا للتعاطي مع استحقاقاتها الباهظة؟ عندما يسمع البعض هذه الكلمة يروا تجلياتها في النمط الغربي للديمقراطية وهم لا يعلمون أن النظام الديمقراطي لدى الغرب جاء حين كان لديهم قصور بهذا الجانب إبان فترة العصور الوسطى، عصور الظلام كما أطلق عليها في الغرب، وكان من أبرز ملامحها انتشار الجهل والتخلف ومحاربة العلم والعلماء والمفكرين، كل ذلك في ظل أنظمة سياسية ديكتاتورية متناحرة مذهبيا وسياسيا لا مكان فيها للحرية ولا العدالة، في الوقت الذي كانت فيه الدولة الأسلامية بأوجها وتشهد ثراءً حضاريًّا وثقافيًّا ورقيًّا في كل المجالات. هل يعي من يتحمسون بالدعوة إلى الديمقراطية فعلا الوجه الآخر للعملة؟ اليست التطلعات والآمال والغايات التي ستأتي بها الديمقراطية موجودة ومتحققة أصلا في الوطن؟ ينتظر الجميع من الديمقراطية أن تمنحهم كل شيء متناسين، أو غير مدركين ربما، أنها قد تكون مؤلمة في كثير من الأحيان. لا يعي الكثيرون أن للديمقراطية شروطها وأدواتها التي يستحيل أن تتبلوَر في الواقع بدونها، وأن لها استحقاقاتها التي قد تكون أكثر مما نستطيع كمواطنين توفيرها في الوقت الراهن. عدم الإلمام بواقع الديمقراطية جعل البعض يتوهم انها هبة مستحقة أو سلعة اخرى تحظى بدعم الحكومة.
المجال لا يتسع هنا لنتطرق إلى آليات ومبادئ وتعريفات الديمقراطية واختلاف أنماطها وتنوعها حسب المفهوم الغربي، ولكن لنجري مقارنة بسيطة للاستبيان حول استحقاقات التغير إلى الديمقراطية والتي تحتم علينا طرح الحقوق بالتوازي مع الواجبات. في مجتمعنا، توفر الدولة للمواطن مجاناً الخدمات الصحية والتعليم والتدريب ومنحة الابتعاث الخارجي ومنحة الأرض وقرض السكن وتنظيف المرافق العامة والأحياء وأماكن تجميع النفايات وصيانة الشوارع والطاقة رخيصة نسبيا، وهي أمور يأخذها البعض كونها تمثل بدهيات ومسلمات يجب ألا تكون موضوعاً للنقاش أو المساومة، وفي المقابل، قوانين صارمة وقاهرة يلتزم بها المواطن الغربي ويدفع جرّاءها سلسلة من الضرائب العالية، فهناك ضرائب على الدخل السنوي بغض النظر عن الوضع المهني أو الوظيفي قد تصل لنسب تفوق الأربعين بالمئة في بعض الدول الأوروبية، وضرائب تقتطع لصالح البلدية حسب موقع السكن، وضرائب على العقار الذي يملكه المرء، وأخرى تعليمية وصحية وبيئية، وضرائب على وسائل النقل الخاصة والعامة و كذلك الطرق والخطوط السريعة، وضريبة على المأكل والمشرب والملبس وكل شيء يُبتاع ليشمل ذلك السلع الكهربائية والأثاث المنزلي. والسؤال هنا، هل نملك كمواطنين استعداداً لقبول مرحلة والتي من المحتمل أن تفرض علينا ضرائب مثل النموذج الغربي؟ وهل نحن مستعدون فعلا لإنهاء الاتكالية والاعتماد على الآخرين في تنفيذ مشاريع التنمية؟ من منا يريد أن يستلم راتباً نُزع من قيمته أربعين بالمئة مثلاً؟
المنادون بالديمقراطية لدينا يعتقدون أنهم يستطيعون أن يغيروا ما يريدون تغييره فقط في حين تظل الأمور التي تعجبهم على حالها، ولا بد أن يعلم هؤلاء المخدوعين أنه لا شيء بلا ثمن حيث إن لكل تغيير إيجابي استحقاقات أخرى قد تكون سلبية على الصعيد الشخصي. لنشاهد من حولنا المسيرة المُحبطة لما سمي بأوهام الربيع العربي الذي أشاع الفوضى في البلدان العربية وحول الأحلام والتطلعات العريضة للبعض إلى كوابيس مرعبة ما انفكت تطارد بعض الدول العربية وشعوبها، وبقدر ما كانت ضخامة التمنيات والأحلام كانت ضخامة الإحباط. وفي واقع الأمر لا يمكن انكار حقيقة أن العديد من الدول عانت من طغاة وصلوا إلى السلطة بأصوات الشعب.
عمان تخطو خطوات ثابتة ومتزنة اتجاه تعزيز تجربة الممارسة الديمقراطية وهو الأمر المطلوب لأي تجربة ديمقراطية ما زالت غضة تنمو في تربة غير ممهدة لها. إن النظام في عمان له بصمته الخاصة، فهو نظام غير استبدادي، وليس ديمقراطيا على النهج الغربي، وإنما تنموي. نعم الأخطاء واردة و موجودة، والفساد حاضر أيضا، لكن هذا لا يعني اضطرارنا للتحول إلى ديمقراطية كرتونية وننهي ما كسبناه من استراتيجيات التنمية والبناء التي نرى نعمها ظاهرةً في بلادنا. لقد كان الإصلاح المغلف بشعار نشر الديمقراطية هو إحدى الذرائع التي استخدمها الغرب للتواجد في المنطقة والذي لم يخلف وراءه سوى الدمار وديمقراطية عرجاء محفوفة بالطائفية المقيتة ونزاعاتها الدموية التي دلفت بالشعوب في وحل الفوضى والفساد والتوتر الأمني والأخلاقي.
إن تعزيز تجربة الممارسة الديمقراطية التي تبنتها بلادنا تتم بهدوء وفق خصوصيتها ودون القبول بوصفات خارجية، حيث طالما كانت عمان حريصة على استقلالية القرار والخيار. هي ممارسة شرعت فيها السلطنة منذ زمن ليس بالقريب عبر مجلسي الشورى والدولة وقامت بتعزيزها عبر المجالس البلدية وصلاحياتها الواسعة. على وجه العموم فإن النظام القائم في عمان وقبل المساعي الهادفة إلى تعزيز تجربة الممارسة الديمقراطية كان عادلا وبشكل تكاملي لأن الحكم رشيد ويولي أهمية خاصة لمصالح المواطنين، وأظن أن هذا هو بيت القصيد.
طالما شكل الأمن والاستقرار أولوية قصوى بالنسبة لأوروبا كما أن الديمقراطية تطبق عندهم بما يتوافق مع مصالحهم السياسية والاقتصادية، وفي سبيل ذلك، لا يترددون لحظة واحدة في اتخاذ أي وكل إجراء اتجاه ما يهددهم. هم لا يلتفتون إلى مسائل الحريات وحقوق الإنسان اذا ما تعلق الأمر بأمنهم القومي والمجتمع لديهم يتفهم هذا بصفة عامة. هم لا نجدهم ملاحقين من قبل منظمات حقوق الإنسان كما انهم قلما يتعرضون لحملات انتقاد لاذعة تتهمهم بانتهاك حقوق الإنسان.
إن فرض النمط الغربي من الديمقراطية علينا سوف لن يكون مثمراً أو بناءً، وفي حال فرض، ستتحول الديمقراطية عن مظمونها كفلسفة لحكم المجتمع إلى الية للوصول إلى سدة السلطة. إن الديمقراطية التي نهفو ونتطلع إليها ليست بإجراءات تكتب على الورق أو بمؤسسات تنشأ عنوة، ولا بد من الوقوف بصرامة ووضوح فى وجه أية تجاوزات لا تتفق والتقاليد الأصيلة لمجتمعنا ولا تتناسب مع ما تعيشه عمان اليوم ولا مع ما تسعى اليه فى المستقبل. لقد أصبحت عمان محل اهتمام أوروبي واستثمار غربي وقبلة للسياحة والاستجمام عبر نظامها القائم - ومن وجهة نظري - التنمية أولى من الديمقراطية.