ـ لم يتوقع أحد اختراق نظام قوي كسوريا
ـ تبدلت الحياة الاجتماعية والتربوية والسياسية للعديد من العرب
ـ طول أمد الحرب يؤدي إلى تغيير في كل شيء

لا شك أن حالة الأسرة العربية تثير الشجن بما وصلته من تحديات ومن سؤال المصير الذي استمر منذ أن اندلعت أول رصاصة ضد مجهول ما لبثت أن أصبحت ضد من هو معروف في حياتها العربية.
إن دراسة موضوعية لوضع الأسرة العربية ما بعد الحرب الدائرة في صفوفها، تؤكد لنا أنها تعيش أزمة مصير وإعادة تكوين نفسي واجتماعي وسياسي، وأنها بقدر ما هي في حالة الألم التعبيري الظاهري، إنما تسعى لأن تتخلص ولو بالقدر الأدنى من مفاجآت الأزمة التي انهالت عليها دفعة واحدة وبدون مقدمات.
إذا درسنا اليوم الأسرة العربية في ظل الحرب المشنة عليها، سنجد تعابير لا حصر لها، لكنها في كل الأحوال مصدومة مما هي فيه، ومما آلت إليه، ومصدومة من حالة الاستمرار التي تبدو وكأنها مستمرة، والاستمرار يعني في هذه الحالة المزيد من اللعبة الخطرة التي ستؤدي بالأسرة إلى عالم غير صحي ومجهول ومتردٍّ.
لم تكن الأسرة العربية جاهزة في تكوينها لقضايا العصيان المدني، أو الحرب الإرهابية عليها، فهي دائما في حالة من الاستقرار النسبي الذي تراه دائما وثابتا .. ففي سوريا مثلا لم يكن أحد من تلك الأسر الشعبية أو غير الشعبية أن يشك ولو للحظة واحدة مما وصلت إليه أمور بلاده .. فسوريا موصوفة بأمنها الحديدي، وأن الأمن فيها قادر على الدخول في أدق التفاصيل حتى الاجتماعية، فما بال القضايا السياسية وما يتفرع عنها. وأذكر نقاشا جرى بيني وبين أحد السياسيين اللبنانيين أكد لي قبل بدء الأحداث في سوريا، أنها بلد مصان تماما ولا خوف عليها، وبجملة واحدة وصف الوضع السوري بأنه "حديدي" لا يمكن اختراقه. فلقد عاشت الأسر السورية في ظل نظام يتربع فيه الأمن على الحياة بشكل عام، ورغم ما يقال بعلاقته مع الحرية والديمقرايطية، إلا أني كنت أرى في تلك التربة السورية صورة متقدمة من صور حفظ الحياة الإنسانية .. ولكم ظل السوريون بهذا المعنى أن بلدهم ديكتاتوري، لكن لا أحد كان يعرف حجم الهجمة على ذلك البلد العربي لأكثر من سبب وسبب، ولم يكن لأحد أن يسأل عن السبب الذي يدفع بالسوريين إلى صيانة بلدهم عبر حمايته بتلك الطريقة المشروعة التي تؤمن الغد وما بعده.
ومثله كان الوضع في ليبيا، من يصدق أن يصل التمرد على العقيد معمر القذافي إلى تلك الخاتمة الحزينة .. لقد كانت ليبيا مشروعا قذافيا بكل معنى الكلمة، ولم يظهر ولو لحظة واحدة أن ثمة حراكا ما ضد العقيد الذي بنى ليبيا كما يجب أن تبنى حسبما هي تبعيته .. لقد كانت ليبيا في عهد القذافي واقعا من الأسئلة عن قدرة اللجان الشعبية التي بناها، وكيف أنها كانت يده الطولى التي هي أسس مخابراته وتشكيلاته الحزبية مع أنه كان يكره التحزب والأحزاب .. ومن كان يعرف الأسس التي تقوم عليها التجربة الليبية، كان يؤكد أن الناس في حالة غليان لكنها لن تصل إلى مرحلة التعبير الدموي الذي أنتج تلك الطاقة الهائلة من العداء الداخلي، وكيف أنه جرى تطويع سريع للواقع الليبي بحيث ارتسمت معالمه سريعا حين رفعت آلاف الأعلام الليبية الحالية في كل التظاهرات التي تحولت إلى صدامات مع الأمن واللجان، وكانت تكبر مثل رقعة الزيت، وظلت تكبر وتكبر إلى أن تمكنت من شطب قائد البلاد بطريقة درامية لم تكن متوقعة.
وإذا ما ذهبنا إلى العراق، فليس هنالك مما هو مخبأ وغير معلن لأن الاحتلال الأميركي له كان أمامنا جميعا وعلى أجهزة التلفاز وأمام الشاشات والعالم .. حرب جرت بهذه الطريقة العلنية لم يكن أمامها سوى أن تصل إلى أهداف محددة، وصلتها بالفعل بعد أن مشى الجيش الأميركي من البصرة إلى بغداد أكثر من خمسمئة كيلومتر بسرعة الصاروخ، ثم أطبق على العاصمة العراقية بطريقة غير مألولفة للنظر، ثم فرض شروط الاستسلام على كل عراقي انتمى لأي فصيل عسكري، وكنا جميعا نعرف مدى صعوبة أن تنهار بغداد بالذات، وكيف رتبها صدام حسين لتقاوم دهرا لكنها سقطت بساعات. وكيف قدم الأميركي نموذجه المراد في ذلك القطر العربي حين أسقط تمثال صدام حسين في شارع الفردوس، كأنما كان يوصل رسالته النهائية إلى العراقيين والعرب والعالم: أنا الأميركي من يحكم هذه البلاد ومن سيديرها، ولقد حقق بالفعل، لكن هيهات له أن يمسك بأعصابها، فلقد هزته منذ الأيام الأولى قدرات العراقيين في المقاومة، تحول كل عراقي إلى مقاوم، ولم يعد أمام الأميركي سوى حصد الخيبات رغم أنه حاول أن يثبت براعته في الصمود، إلا أن قتلاه صاروا بالآلاف.
من كان يظن أن هذه الدول الثلاث على الأقل، وكيفما كانت تحكم، أن تصاب بهذه الطريقة، أن يسقط العراق في قبضة جيش محتل ونبكي جميعا لأن الدبابة الأميركية في بغداد، وبعدها نرى معمر القذافي أسير شعبه يطوح به يمينا وشمالا ثم يقتله بدم بارد كما كانت الأوامر التي تلقاها من أطلق النار عليه .. وها هي سوريا ما زالت قادرة على تغيير الخرائط، والمفاهيم والأفكار، ما زال صمودها الرائع مثار إعجاب لجميع وتساؤلات الأجمع، رغم الدمار الهائل في قراها ومدنها وريفها، والنزوح المليوني وكذلك الهجرة إلى الخارج .. ما زال الجيش العربي السوري يقاتل، يتنقل في قتاله بين المدن والأرياف والقرى وغيره من الأماكن، إنه العناد الوطني في أعلى مراحله، إنها الوطنية التي تعلمنا كيف تنشأ العلاقة مع الوطن وكيف يحب المرء بلاده ويضحي من أجلها.
ثمة في سوريا من يكتب نصه الخاص الذي سنفرد له، وثمة حالة التباس في مصر، وأسئلة في لبنان، ومفردات في اليمن، وخوف في الأردن، وقلق في تونس، ومتابعات في الجزائر ... هنالك واقع عربي يريد أن يعرف أين نهاياته؟ وهل صحيح ما هو مرسوم له؟ وكيف ستكون عليه البلاد العربية في مستقبلها؟ هل هي ماضية نحو نقسيم المقسم؟ وهل هي على موعد تغيير خرائطها كما تدعي مصطلحات الإرهابيين الذين نجحت غزواتهم واخترقت بلاد العرب وأقامت لهم مواقع وأماكن لا تسر البال ولا الخاطر؟
كانت الظنون في بدايات الأحداث أنها غيمة وتمر، خصوصا عندما شاهدت شعوبنا ما جرى في تونس وكيف ترك الرئيس زين العابدين بن علي الرئاسة خلال أيام قليلة من الحراك الشعبي، ثم تبعه رئيس أكبر دولة عربية هي مصر حسني مبارك، وكيف صنعت الحشود التي ملأت الساحات الكبرى وخصوصا ساحة التحرير، فإذا بالرئيس يتنحى، أيام قليلة أيضا وانقشع الجو في أرض الكنانة عن واقع جديد فرضته تلك الأسر التي تكاتفت وتمكنت من تخليص مصر من ثلاثين عاما من الحكم المتواصل الذي صنع من مصر دولة في نهاية الدول .. وحين كانت ليبيا على حراكها أيضا، والتهديد بين رئيسها العقيد القذافي وبين شعبه قائم، حيث كل منهما يتوعد بتصفية الآخر.. لكن ما حدث في مصر كان أقرب للثورة الغاندية، أي تلك السلمية رغم الإحساس المصري بالانتقام من مرحلة مبارك كلها .. وما حدث في تونس كان أيضا سلميا، أما في ليبيا فقد تطورت الأمور باتجاه آخر .. كانت عين شعوبنا على الصراع الدموي حين حمل الشعب السلاح وبكثافة وجد بين أيدي الناس، قابله تحريك القذافي لقطاعاته العسكرية، لكن الذي حصل عدل الميزان لصالح الناس والشعب حين تدخل حلف الناتو ليقصف باستمرار كل تحركات جيش القذافي، وهو ما غير وبدل المعارك كلها إلى أن تم ضبط القذافي ومن ثم تصفيته.
كل تلك المشاهد كانت مؤثرة لدى شعوبنا العربية، وكانت أسرها تتساءل عن الأقطار الأخرى التي سيضربها زلزال الأحداث، هل هي سورية أم لبنان أم الأردن؟ وكثيرا ما راودها التفكير بالبلدين الأخيرين وخصوصا لبنان نتيجة حالة الوهن التي فيه .. لم يفكر أي من شعوبنا أن سوريا ستكون الهدف الأكبر، ويوم اندلعت الأحداث في درعا جنوب سوريا في منتصف مارس 2011، كنت في دمشق وقلت يومها لبعض الصحافيين أن دبروا أمركم فحربكم طويلة على ما يبدو. وبالفعل تداخلت في الحرب على سوريا شتى الدول والتنظيمات وخصوصا المحيط، وما زالت سوريا إلى اليوم تعاني من حرب عالمية عليها.
التأثيرات على الأسر:
لا تترك الحروب الداخلية أو الأزمات الكبرى داخل الأوطان واقع أسرها على ما هي عليه، بل تأخذها إلى التلاؤم مع المفردات الصعبة الجديدة .. إذ لا يمكن لإنسان عاقل أن يظل جالسا ونائما بشكل عادي ومرتاحا والرصاص حوله والقذائف حوله وعليه .. بل لا يمكن للإنسان الذي يسمع عن همجية حصلت في مكان قريب من سكنه أن يظل مرتاح البال متمسكا بأرضه وببيته ..
ما حصل في ليبيا، حصل في سوريا أيضا، ومن ثم العراق، فلقد تاهت الأسر باحثة عن مرقد هادئ لها هربا من الجحيم الذي كان يحيط بها .. فقد نجحت الهجمات المتبادلة بين جيش القذافي في ليبيا وبين الناس إلى تغيير ديمغرافي كبير، مئات العائلات حملت أمتعتها ورحلت، قيل لها أيام وتنتهي الحرب، منهم من سكن عند أقاربه ومنهم من سكن في مدارس عامة ومنهم من تاه في الصحراء مفتشا عن سبيل إقامة .. أكثر من مليون ليبي تحركوا في كافة الاتجاهات هدفهم الحماية الذاتية، لكن الإحساس الأكبر الذي رافقهم كان فعل الصدمة التي رافقتها أسئلة هائلة أقلها ماذا سيكون عليه التغيير؟ وكيف..؟ ربما فرح كثيرون في ليبيا بأنهم تخلصوا من القذافي ومن أسرته، لكنهم اليوم يتأوهون حزنا على تلك المرحلة التي كان فيها الهدوء مدويا في بلدهم، بعدما أمن لهم العقيد كل شيء الماء والكهرباء والطرقات وكل أنواع الطعام والمدارس والجامعات ..
إطالة أمد الحرب عادة وخاصة في داخل البلاد، يبعث على الشك المطلق بحيث تفقد الأسر الأمل في أي حل، وحتى لو تراءى لها الحل الصحيح فهي لن تصدقه .. عندما تتعب الشعوب من حالة المراوحة ومن طول عذاباتها، تفقد تصديق المشاريع السياسية التي تسمع عنها .. ولهذا تحرك الليبيون بحثا عن مخارج، منهم من خرج إلى المحيط، وخصوصا إلى تونس والجزائر، وهذان البلدان حصنا أنفسهما كي لا تصيبهما عدوى ليبيا، خصوصا وأن أكثر من عشرين مليون قطعة سلاح بكافة أنواعه صارت بين أيدي الليبيين، يقابله شعب لم تصل تعداده إلى أربعة ملايين شخص. لكن الأزمة الليبية اليوم في قمة تفاقمها بعدما اخترقتها تنظيمات إرهابية مثل "داعش" على سبيل المثال، ومن المعلومات المتوفرة عن هذا البلد أن هنالك ثلاثة مراكز تدريب للإرهابيين وخصوصا لجماعة "القاعدة" وهي محروسة من قبل طائرات الناتو مما يدل على أن اللعبة خارج السيطرة المحلية ..
وماذا يفعل الليبيون أمام هذه المعضلة سوى أن يفكروا بمستقبل عيالهم، وقد قرأت لبعضهم هاجس الحرب التي لن تنتهي، وأن ليبيا دولة فاشلة تماما، لا مؤسسات تعمل ولا جيش ولا أمن والحياة فيها مضطربة على مدار الساعة .. تنادى ليبيون كثر إلى الهجرة غير الشرعية بعدما تمكن من تمكن من هجرة شرعية إلى المحيط كما قلنا وأبعد وخصوصا إلى مصر بحكم الحدود المشتركة بين البلدين. ركب الليبيون البحر في زوارق، أسرا إثر أسر، منهم من وصل إلى أوروبا وخصوصا إلى إيطاليا، ومنهم من غرق في عرض البحر. كانت المجازفة بالنسبة إليه أهون بكثير من البقاء تحت رحمة الفساد الهائل والقتل المجاني اليومي والصراعات بين المسلحين على النفط وغيره .. قصة مكتوبة بأبشع الكلمات لا حل لها سوى المجازفة وقد فعلها الليبيون، أسر بكاملها فضلت الهرب والخروج من البلاد.
أما في سوريا فحدث ولا حرج .. من المؤسف أنني سمعت بعد شهور من الأحداث من يتحدث بلغة مذهبية وطائفية .. أحيانا يصنع الشعب ما هو خائف منه، يتداوله فيما بينه، يبدأ شائعة ثم يتحول إلى حقيقة .. لكن الواقع في سوريا لم يصل إلى هذا الأمر .. كانت الحرب عليها منذ البداية تأخذ واقع إسقاط النظام والدولة وتدمير الجيش، خصوصا وأن الجيش العراقي قبلها تم تدميره وكذلك الجيش الليبي، تلك الجيوش التي سلحها ونظمها الاتحاد السوفييتي يجب أن تزول، ليس لهذا السبب وحده، بل لأنها تشكل خطرا على إسرائيل في المديين القريب والبعيد ..
لم يصدق أحد في سوريا منذ أن اندلعت الأحداث أن النظام الحديدي يهتز ومن ثم تكبر المؤامرة عليه، يزداد المسلحون في وجهه، ومن ثم تفتح تركيا الطريق لمن يريد القتال ضد الدولة والنظام والجيش العربي السوري، يقوم بعض العرب بعملية التمويل وبكل ما تحتاجه المعركة من مال وسلاح ومشتقاتها .. الوقت يمضي والناس تسأل وتتساءل، لكن الجواب يأتي من أرض المعارك التي بدأت تتوزع في أكثر من مكان من الجنوب إلى الوسط إلى شمال فالبادية ومن ثم إلى الساحل ..
عاشت الأسر السورية تحت هاجس الحرب المتنقلة، لكن طوابير الهاربين بدأت تدق أبواب العاصمة، فيما بدأت طلائع النزوح إلى الخارج تضرب تركيا والأردن ولبنان .. إنها أكبر الصدمات في تاريخ الشعب السوري الذي كان يعيش الأمان وحلاوته، ويعيش تقديمات الدولة له من طبابة مجانية إلى تعليم مجاني من الابتدائي حتى التخرج من الجامعة إلى الكثير من المضانات الأخرى .. فإذا بحياته تتغير تماما، يخسر كل هذا، ويخسر الراحة والأمان، ويخسر مسقط رأسه، لكن البديل لم يكن يخطر على باله أن يصل إليه .. فلقد أسكن في مخيمات قيل إنها متطورة، لكنها تظل لا وطن ولا سقف وطن ولا مناخ وطن .. ظن أولئك النازحون أن المسألة أيام وتنتهي، لكن الحرب طالت ودخلت في المجهول فلم يعد لها نهاية مرسومة ..
كبرت الصدمة أكثر حين فكر كل أب وأم بأبنائه الأطفال الذين لا ذنب لهم .. أكثر من مليوني طفل حرموا من التعليم، فيما قام ما يسمى "جيش سوريا الحر" بفتح نوع من المدارس التي يدرس فيها ما يحلو له من برامج تربوية تعود لأفكاره، وفي لبنان موجود منها في مدينة طرابلس بشماله. خسر جزء من السوريين ارتباطه بالدولة الأم بكل التفاصيل التي كان يحصل عليها منها .. صار عليه أن يعيش في مطبخ مشترك وحمامات مشتركة ومراحيض مشتركة. ولكن الأهم أن نظام الأسرة الاجتماعي أصابته اللعنة أيضا، فيقال إن أكثر من ثلاثين ألف طفل في لبنان ليس معروفا من هم آباؤهم، وكم تعرضت الفتيات في مخيم الزعتري بالأردن إلى مضايقات من أجل الزواج بهن وهن قاصرات، وقد حصل بالفعل أن تزوج رجال مسنين من فتيات بأعمار لا تتجاوز الخامسة عشرة على مسبيل المثال .. وباختصار، اختلف تماما النظام الأسري الذي كان سائدا في سوريا، دخلت عليه تفاصيل جديدة لم تكن تخطر على بال الآباء الذين انصاع أكثرهم إلى التطور الاجتماعي الجديد وما يفرضه من قيم غير مقبولة لكن عليه أن يتقبلها برحابة صدر.
الصدمة الأكبر كان العمل، فكثير من الرجال فقدوا أعمالهم ومداخيلهم، صاروا يعتمدون على الإعانات التي توزعها المنظمات العالمية وبعض الدول الأخرى .. وهي إعانات كانت تتقلص باستمرار، بدأت بستين دولارا لكل عائلة، ثم وصلت إلى أقل من عشرين، الأمر الذي لم يعد يكفي الأسر، فاضطر بعض الرجال إلى العمل في أعمال لا يجيدونها، فيما انتهى تماما تنظيم تربية الأطفال كما كانت في السابق أي في سوريا، لم تعد الزوجة قادرة على التأثير ولا حتى الأب، وهنا دخلنا في الصدمة الكارثية التي تقول إنه كلما طال أمد الحرب فإن جيل الأطفال سيكبرون وسيصبحون وقودا إضافيا لها، منهم من سيلتحق بالتنظيمات الإرهابية ومنهم من سيتحول إلى لص حيثما يسكن في البلد الجديد .. والأصعب أن جميع هؤلاء الأطفال خسروا تعليمهم وسيكون على سوريا عندما تنتهي أزمتها أن تتعايش مع جيل كامل فقد كل ما له صلة بالعلم والمعرفة، جيل صايع كما يقال تم تدريبه على الفوضى، عاش فيها وتنقل بأفكارها، جيل بلا مسؤولية ولا أمان منه، جيل يحتاج لإعادة تأهيل وتربية من جديد، إضافة إلى تأمين العمل له بعد تدريبه على مهن مختلفة.
حالة من التوهان يعيشها السوري اليوم، أكثر من عشرة ملايين نازح ومهجر بين داخل سوريا وخارجها، وهو رقم كبير بمقياس بلد تعداده أربعة وعشرين مليونا أن نصف عدده يعيش أزمة حقيقية لا حل لها سوى الصبر، لكن جموع السوريين بكل أعدادهم في الداخل والخارج تعيش أزمة الصراع الداخلي وتتطلع إليه باضطراب شديد، وبات من هم في الخارج يفتشون عن مصادر حياة جديدة بعد إيمانهم أن حربهم طويلة الأمد، ولذلك بدأوا ركاب البحر بطريقة غير قانونية وبسفن خطيرة كثيرا ما غرقت وغرق معها عائلات كاملة .. إضافة إلى أن آلاف العائلات قدمت أوراقها الثبوتية إلى سفارات دول عديدة على أمل ورجاء أن يتمكنوا من السفر إليها بطريقة شرعية ذات يوم.
والأزمات العربية إذ تتفاقم وخصوصا في العراق أيضا، فلأنها دخلت في واقع جديد، فقد بات معلوما أن العراق الذي احتله الأميركي لم يترك له جيشا ولا أمنا ولا قوة يحمي بها بلاده، في ظل أوضاع عراقية غير مريحة أمنية كان تنظيم "داعش" يخترقه، فإذا بالكثير من العائلات تنتقل من منطقة الأنبار بحثا عن ملاذات جديدة .. لكن الأمر تجاوز ذلك إلى توسيع رقعة هذا التنظيم الإرهابي باحتلاله الموصل ثم تمدده أكثر، وهنا حصلت الصدمة الأسرية حين ارتحلت عائلات بكاملها من المسيحيين والايزيديين وغيرهم من المذاهب بعد تعرضهم لخطف وتنكيل من قبل الإرهابيين .. صار العراق كله مصدر تأوه، وخصوصا في تلك المناطق المنكوبة .. ثلاثة ملايين عراقي نزحوا إلى الخارج، وفي الداخل عدد مقابل تقريبا غيروا أماكنهم فصاروا لاجئين يعيشون على الإعانات أيضا حسبما هي أوضاع السوريين اللاجئين.
وما زاد الطين بلة، التنظيمات الإرهابية التي عصفت بسوريا والعراق وليبيا وصار لها أجنحة في كل مكان، تضرب في السعودية وفي الكويت وفي لبنان وفي غيره من البلدان .. وهذه خلقت رعبا ويأسا من الواقع العربي تدافع فيها الناس أكثر إلى التفتيش عن أمكنة خارج بلادهم .. ومن باب التوثيق أقول بلا تردد، إنه لو أعطي لملايين العرب فرص السفر من بلادهم لما بقي عربي واحد، بعدما فقدت فرص الأمان بكافة جوانبها لم يعد هنالك أمل في عيش أو عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل أحداثها.
التنظيمات الإرهابية من "داعش" ومشتقاتها أيضا فرضت أنظمتها الخاصة من تربوية واجتماعية وسياسية وعسكرية واقتصادية، صار التدخين ممنوعا مثلا، صار على المرأة أن تتنقب وممنوع عليها السير وحدها في الشارع، صارت الصلاة إجبارية، واللباس محدد للجميع، تغير نظام الحياة تماما في الأماكن التي يديرها الإرهاب الذي فرض شروطه الخاصة ومن لا ينفذ يقطع رأسه أو يصلب أمام الناس ..
أصعب ما عانته الأسر من حالات نفسية تلك المشاهد المدمرة للنفس البشرية بقطع الرؤوس .. مشاهد لم تعتد عليها ولم تعشها من قبل.
كل شيء تغير في حياة الأسر العربية، وكل شيء تبدل وتغير لم يكن متوقعا حدوثه، من طبقت عليه تلك التطورات عاش جحيمها، ومن يرى عن بعد يحمل في نفسه آثارا لا تمحى .. وباختصار شديد، فإن عالما عربيا يتوارى وينسحب باتجاه أن لا عودة إليه، فيما عالم من التصورات والمفاهيم والتطبيقات والأعراف والحياة الاجتماعية المختلفة والشكل الاقتصادي الجديد يدخل إلى الساحة .. اختلفت الحياة جذريا بكل أنماطها .. وعلى العالم العربي أن يتقبل ذلك التغيير .. صحيح أن المتغيرات الاجتماعية تحتاج إلى وقت كبير، لكن كما يقول ابن خلدون فإن الضعيف يلحق بالقوي، ويبدو أننا أمام مشهد أسري جديد لم يكن معروفا من قبل، فالذين نزحوا إلى بلاد معينة سوف يحملون معهم شكلها الاجتماعي والتربوي والتعليمي وغيره.
إنها صدمة الحرب والتغيير القسري الذي تفرضه الحروب وخصوصا تلك التي تحصل داخل المجتمعات، وهي الأصعب عادة لأنها تطويل، وتتحول من القتل إلى تدمير البنى الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية وكل ما له صلة بالإنسان. ويبدو أن هذه الصدمة ستطول، ولذلك نحن أمام مشهد سيفرض على المنطقة، فإذا ما قسمت سادت، وإذا ما ظلت على ما هي عليه ساد الواقع الجديد، في كل الأحوال نحن إلى تغيير شامل كامل.

زهير ماجد