غيابه صاحب تأثيرا فى الذوق العام للجماهير وهبوطا في مستوى الأغنية

عرض ـ حسام محمود:
تعتبر حركة النقد الموسيقى فى المنطقة العربية هى الأمل القادر على إعادة الأغنية إلى مسارها الصحيح من جديد برفع الذوق العام الذى افتقدته غالبية فئات الجماهير لسنوات طويلة بسبب الإسفاف الغنائى، الذى عانت منه ولا تزال تعانى الساحة الفنية بالوطن العربى خاصة بالمجتمعات الأكثر سكانا، والتى صارت موسيقاها تتسم بالاقتباس من النمط الغربى وتقليد الموضات الأميركية والهوس بالعشوائيات بلا وعى بحقائق أصالة الموسيقى والغناء العربى . فالنقد البناء قادر على اعادة فنون المبدعين إلى الساحة دون الانجراف وراء الغوغائية المصاحبة للغناء العصرى الصاخب الذى يتخذ منه مروجوه تجارة مربحة بالملايين. وذلك بالتركيز على الطرق الموسيقية العشوائية والكلمات المسفة والمعانى المصطنعة بحثا عن كل ما هو جديد فى سباق موضة الغناء من أجل الثراء والشهرة دون رسالة فنية سامية، مثلما كان الحال فى الموسيقى العربية القديمة والغناء الأصيل الباحث عن إحياء الوجدان والقلوب بنبراس الفنون الصادقة والهادفة التى تحتاج لإحيائها من جديد.

تحليل الفنون
يحتاج النقد الهادف إلى أطر صحيحة لوضع معايير شفافة يتم من خلالها معالجة أوجه القصور الفنية الحالية خاصة بساحة الغناء والموسيقى، فالناقد الموسيقى يرسم نورا يضيء الطريق أمام المشتغلين بالفنون مما ينعكس على الذوق العام حتى على الساحة الفكرية والثقافية. فحلقات الفن والإبداع الشعرى والأدبى مترابطة الأركان، حيث إن سمو الأفكار يدفع نحو ظهور رواد جدد يحملون رسالة التنوير فى كافة المحافل . ليتم مواراة المقامرين بالفنون من أجل الشهرة وذيوع الصيت لجلب المال والثراء دون وجه حق، فتنقية الساحة الفينة يستلزم إعلاء شأن الفنانين الجادين، وعدم الاهتمام بالوصوليين الذين يستهدفون الهبوط بالأذواق بما يتلاءم مع إمكانياتهم الفاقدة للموهبة. ولو تأملنا حركة النقد فى الموسيقى العربية نجد أنها قد تأخرت كثيرا إذا ما قورنت بالنقد فى باقى أنواع الفنون الأخرى. وقد يرجع ذلك إلى عدم وجود مناهج وأساليب محددة لعملية النقد الموسيقى . مما جعل النقاد فى هذا الحقل يلجؤون لنظريات شخصية بعيدة عن الدراسات المنهجية العامة ومستوحاة من رؤية غالبا تكون ضيقة لكونها غير مقتبسة من اطار معترف به للتقييم . ولعل المسابقات الغنائية والموسيقية التى تبحث عن الهواة لدفعهم نحو احتراف الفنون قد كثرت لكنها فقدت أهم عناصر النجاح، وهو المصداقية التى يجب أن تكون قائمة ليس فى هدفها أو قدرتها على خلق نجم جديد فقط، ولكن فى المضون حيث ينبغى تطبيق مقاييس عامة للنقد الفنى العام، وليس طبقا لأطر شخصية خاصة بالممتحنين من كبار المشاهير. فتكون النتائج سلبية غالبا لكون هناك تابينا كبيرا بين لجان التحكيم فى كل مسابقة لتفرز تناقضات فى مستويات من اجتازوا الاختبار. ومن الغريب أنه حتى فى حالة وصول الناجحين فى المسابقات الغنائية والفنية إلى اجتياز كافة الاختبارات للصدارة، فإنهم غالبا لا يكونون نجوم لا الحاضر ولا المستقبل . فغيرهم حتى لو كانوا أقل موهبة يسبح فى تيار الغوغائية الجامحة وفن العشوائيات الزائف بنجاح السوق غير القويم عبر ألمومات غنائية وموسيقى صاخبة تخطف جماهير الشباب والمراهقين وتكسب الملايين، ليكون مشاهير الإسفاف الغنائى صناعة آلة شركات الدعاية والإعلان التى تتهافت عليهم دون معايير عامة فى التقييم والاختيار بفقدان النقد السليم، ولا حتى بتطبيق المعايير الشخصية التى تعبر عنها المسابقات ذات الصيت فى القنوات الفضائية .

إصلاح الأذواق
لعل غياب النقد الموسيقى صاحب التأثير فى الذوق العام للجماهير أحد أسرار هبوط مستوى الأغنية والموسيقى العربية، ولكن أيضا الإطار السريع للحياة التى تعيشها غالبية المجتمعات العربية جعلها تتشبه بأذواق أميركية وغربية، وكثير منها تنبع فنونه من العشوائيات وسط اسفاف الكلمات والمعانى الهابطة التى تسير كالسموم فى شرايين ثقافة الأجيال فتطمس هويتهم المستقبلية، بل وتجعلهم رهينة موضات مقتبسة من لغة المادية والانتهازية والبحث عن صور الانحطاط بكليبات راقصة تعبر عن رغبات مكبوتة لدى الشباب يراها تتجسد أمام عينيه. فسلطة النقاد يجب تفعيلها لإصلاح انحراف الأذواق كى لا يزيد تدهور الفنون وتصبح الساحة فقط للعابثين والمهرجين ولمن لديهم علاقات دعائية تصل بهم لعنان الشهرة دون موهبة . ولعل الخطورة فى هذا المنوال كون الرهان على النقد للإصلاح ينطوى على صراع ضد الفنون المادية التى صارت تنخر فى عظام ثقافة غالبية المجتمعات العربية، حيث إن الغناء والموسيقى الهابطة يتسببان فى تدهور الذوق فى كافة مناحى الحياة حتى السلوكيات العامة، لتصير الضجة والمادية نهج الحياة، والتشبه بالغرب موضة ورقيا. وتلك هى الطامة الكبرى بقيادة الانحراف فى الفنون لضياع الأخلاق والقيم العربية القديمة والمعروفة بسموها، فتلك القضية ليست فنية فحسب إذا ما أرادت معاول النقد معالجتها، ولكنها فى المقام الأول قضية الحفاظ على الهوية، وصون السلوكيات الرصينة، والدفاع عن القيم والأخلاقيات الرفيعة أمام المجون والعبث اللاهث. وينبغى عند تطبيق معايير النقد البناء على الساحة الفنية تعريف الناقد بالأساسيات والدراسات، واستبيان البحوث العتيقة والحديثة حول الغناء والموسيقى، وعلاقتها بالثقافة والفكر، وربطها بالشعر والأدب. والوصول إلى قناعات يتم الاتفاق عليها من قبل النقاد حول الآلات الموسيقية المستخدمة ودرجات الأصوات، وتطبيق منحنيات العزف والغناء، وتطبيق تحليلات موسيقى الأولكسترا الموسيقية للجمع بين القديم والحديث، وذلك فى اطار لا يطمس الهوية الفنية العربية بل يزيدها بريقا وهو الهدف الأسمى للنقاد . وليست نظريات العودة إلى تفعيل النقد فى مواجهة الانحراف الثقافى والفنى صناعة عربية احتكارية، فقد سبق الغرب منذ قرون إلى هذا المنوال من خلال نشأة النقد فى أوروبا خاصة فى ألمانيا فى مطلع القرن الثامن عشر . وكانت مصر فى طليعة البلدان العربية التى حاولت جاهدة منذ عقود على اعلاء شأن النقد الفعال المصلح منذ مطلع القرن العشرين. لكنه لم يلبث أن خفتت زهوته نتيجة اصطدامه بموجات التشرذم الغنائى وصراعه مع الموسيقى المختلطة وغزو الفيديو كليب المسف . لكن لا تزال الأجيال كبيرة السن داخل المجتمعات العربية تتذكر جيدا سيد درويش وسلامة حجازى ومحمد عبد الوهاب، وأيضا يدفعها الحنين نحو الرومانسية والمعانى الراقية لتتذكر فئات أخرى الرجوع لتراث طائفة العمالقة، التى تتضمن أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وعبده الحامولى . حيث كان هناك تكامل بين بانوراما الصوت الموهوب مع الكلمات والأشعار السامية لكبار الشعراء أمثال : بيرم التونسى وأحمد شوقى وإبراهيم ناجى وحافظ إبراهيم وبديع خيرى الذين تعطشت الجماهير العربية حاليا لتكرار تجاربهم بمواهب جديدة تتسم بالرقى وعمق المعانى والبلاغة فى التعبير .