قراءة في (الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح)

القرآن الكريم بيّن أن الإنسان أيا كان يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته بالطرق القانونية

الحياة الزوجية في الإسلام تتسامى فوق الرغائب الجنسية وتجعل من هذه العلاقة رباطا مقدسا

يجب أن تكون للمنزل حرمة تمنع التجسس عليه أو الدخول فيه بلا استئذان

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها (الفقه الاسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) والتي عقدت خلال الفترة من 6 إلى 9 جمادى الثانية 1435 هـ، الموافق 6 إلى 9 ابريل 2014م في نسختها الثالثة عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(حقوق الإنسان في القرآن الكريم) للدكتور سيف بن سالم الهادي .

براءة الذمة حق يتمتع به كل أحد حتى تثبت إدانته:
يقول الدكتور الهادي في هذه المسألة: ان التهم التي توجه إلى الناس كثيرة وعديدة وقد كانت المجموعات البشرية تحاسب الناس على ما يقال عنهم دون تثبيت أو يقين، ومن المؤسف جدا أن يسجل التاريخ الإسلامي قصصا مؤلمة من هذا النوع، رغم أن القرآن الكريم قد بيّن أن الإنسان أيا كان يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته بالطرق القانونية الصارمة، فعندما اعترض إبليس اللعين على آدم عليه السلام في السجود، لم يتلقى اللعنة الإلهية إلا بعد سؤال وحوار:(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
مبينا هنا بأنه وقد جرت آيات القرآن الكريم كلها في هذا الإتجاه؛ فنقل الخبر عن المجموعات أو الأفراد لا يكون مقبولاً إلا بعد التثبيت الدقيق، ولا يجوز أن توجه تهمة قبل هذا التبين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وأي تهمة توجة إلى إنسان في عرضه أو شرفه تعتبر لاغية ما لم يقيم عليها المتهم دليلا، حتى ولو كانت زوجته، ففي حادثة الإفك يقول الله تعالى:(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ، لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، وما يحدث من اتهامات بين الزوجين ولم تكن هناك وسائل للإثبات عند الزوج؛ تكون الزوجة برئية مهما علا صراخ الزوج، وإن زعم أنه رآى ذلك بعينه، لا بد من يتم التحقيق منه قانونيا وفق الحكم الإلهي العادل (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).
مؤكدا بأن القرآن الكريم لا يكتفي فقط بمعالجة هذه التهم قانونيا، وإنما يبث في كل حكم أقدارا واسعة من الجوانب الأخلاقية التي تمنع الهوبط إلى درجات التهم أو التلذذ بنقلها حتى ولو كانت صحيحة:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وسيدخل هذا الضمير الإنساني في مسألة التقاضي بين الزوجين؛ لأن الذي يحلف بالله لا شك أنه يضع قداسة للذات الإلهية والمصير الأخروي. وهو ما عجزت الأجهزة القانونية الغربية والشرقية عن توفيره للناس، ولذلك ظلت الكثير من الحقوق مهضومة لا يجد القانون لها مادة تحكمها.
* حق التنقل واللجوء:
وحول هذا الجانب يتحدث القرآن الكريم عن حق الإنسان الكامل في الإنتقال داخل وطنه دون ملاحقة قانونية أو تدخل حكومي، وإذا شعر أنه يواجه حصاراً فكرياً أو عذابا جسديا أو ملاحقة تعسفية فله الحق أن يطلب بلداً آمنا يأوي إليه ويلجأ عند أهله، بل يصور القرآن الكريم ذلك حقاً لله على الناس وحقاً للناس على الناس، ففي مكة المكرمة تقول الملائكة للمستضعفين الذين لم يستخدموا حقهم في اللجوء والهجرة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، ذلك لأن الأرض لله، ومن حق الإنسان أن يتنقل في أرض ربه، وأن يلقى عصا الترحال في أي مكان شاء (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).
وقال: وفي قصة موسى عليه السلام دلاله واضحة على ضرورة هروب الإنسان من التعسف واللجوء إلى المناطق الآمنة (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، وعندما وصل ماء مدين استطاع الرجل الصالح أن يفرض له الأمن والاستقرار، بناء على أن الإنسان محمي بالحق، ويجب على كل فرد أو جماعة أن يوفر له الأمن والحماية بقدر طاقته ما لم يكن هذا الذي جاء إليه مجرما محكوما بقضايا عادلة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
مؤكدا بأن القرآن الكريم في هذه الجزئية يذكر بأن الخونة أصحاب القضايا المسيئة لا يصح أن ينتصب الإنسان مجادلا عنهم أو حاميا لذواتهم، لأن ذلك يعني انتهاكا لحقوق أناس آخرين مسلمين أو غير مسلمين:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا،يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا، هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وذلك ردا على طلب بعض المسلمين الحماية من رسول الله بعد أن ثبتت عليهم التهمة لصالح اليهودي، حيث إن توفير الأمن للاجئين حق للإنسان أيا كان جنسه أو وطنه أو دينه،فمن طرق أبواب المسلمين يجب عليهم قبوله وحمايته، يقول الله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
* حق الجنسية :
وقال الدكتور الهادي حول هذه النقطة الهامة: انه يدخل في هذا الحق حق الجنسية والمواطن حيث لا يجوز نزع جنسية فرد أو جماعه من بلادها ، لأن ذلك حقه الذي لا يجوز الإعتداء عليه إلا في حال ارتكاب جرم عظيم كقطع الطرق وإرعاب الآمنين؛ فإنه في هذه الحالة قد مارس ارهاباً يدل على استهتاره بوطنة والقاطنين فيه، ولن يكون هو أولى بالعيش فيه على حساب الآخرين، ففي عقوبة قاطع الطريق يقول الله تعالى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، على أن ذلك يتحقق فقط في من قبض عليه متلبسا، أما من غادر هذه الجرائم تائبا ومستغفرا فإن ذلك يحميه من الملاحقة القانونية؛ لأنه أصبح فردا إيجابيا في المجتمع، وتبقى التبعات الأخرى تعود إلى تقدير الدولة (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، أما ما عدا ذلك فإن آيات القرآن الكريم تؤكد حق الإنسان في وطنه واحقيته بالعيش فيه دون مضايقه أو إكراه، وليس أدل على ذلك اعتبار الناس في الوطن جسدا واحدا ، يعد الاعتداء على واحد منهم اعتداءً على الجميع :(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وفي داخل هذا الوطن وبموجب هذه الجنسية يحق له دون منع أو إكراه أن يشترك في أي جمعية تعمل في الإطار الأخلاقي والتنموي وتتكامل أهدافها مع الحقوق الأخرى التي تجب للمجتمع والناس.
* حق الأسرة:
وقال: ان الأسرة هي المحضن الرئيس للزوجين والأبناء ، وتتسع دائرتها لتشمل الأبوين والأرحام، ومن هنا فيحدد القرآن الكريم النظرة التي يجب أن تكون إلى هذا المحضن الدافئ، فيبين أن الاختيار عند الرجل والمرأة يجب أن يكون حراً، مبنياً على القناعة والأخلاق:(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، فإذا انعقد الرباط انسجم الزوجان انسجاما يجعل كلا منهما لباسا للآخر:(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهن) وتلك هي الضمانة التي توفر أجواء المودة والرحمة فيقول سبحانه:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
واوضح الباحث هنا بأن الحياة الزوجية في الإسلام تتسامى فوق الرغائب الجنسية، وتجعل من هذه العلاقة رباطا مقدسا لا يجوز لأحد الزوجين أن ينتهز فيه فرصة القوة على الآخر:(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، وحالما تم الاقتران فإن الجميع في بيت الزوجية سيكون متساوياً، فما لهذا يكون لذلك أيضاً، ويختص الرجل بمزيد من التكليف في رعاية الأسرة والأبناء والأنفاق على الزوجة، وهي في حقيقتها مزيد كرامة للزوجة خاصة: (.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وتلك هي القوامة المالية والأشرافية:(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ..)، ويجب أن تكون هذه القوامة خاصة بالحياة الزوجية لتنظيمها وليس لأنها أفضلية جنس على آخر، لأنها ستنسحب تماما عندما يكون التعامل بين الرجل وأمه وأخته؛ إذ تجب عليه الطاعة مع الأولى، والاحترام وعدم التدخل في الشؤون مع الثانية، وعندما تتأزم العلاقة في مرحلة من مراحلها فإن الزواج ليس سجنا أو قدرا أخيرا لا يستطيع الطرفان الفكاك منه؛ بل هناك مخرج وهو الطلاق، لكنه يجب أن يكون بإحسان، مراعاة للعاطفة التي نشأت، والعلاقة التي تمت، ففيها من اللاسرار والحرمات ما يقتضي أن يتم الفصل معه بهدوء (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ..).
الأبناء:
وقال: ان الابناء في داخل هذا المحضن يحظون برعاية تامة،فهم زينة تنشر على الحياة بهجة جميلة:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) ولذلك فإن طلب هذه الذرية سيكون مقرونا بالحرص على التربية الايمانية والاخلاقية:(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، وعندما ينتشرون في أجواء الاسرة الجديدة؛ فإن الاعتقاد الذي يجب أن يسود هو أنهم خلق الله، أرزاقهم بيده فلا يجوز التضييق عليهم في العيش أو قتلهم مخافة الفقر (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا): ومن هنا فإن الاجهاض جريمة تعادل وأد البنت أيام الجاهلية (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).
وقال: وتبقى مسؤولية الأبوين عن الابناء قائمة، ترعاهم إن أخطأوا بالتوجيه الحسن وليس بالعنف، كتوجيه يعقوب عليه السلام لبنيه: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، ويظل القلب منشغلا بهم إن غابوا أو تغربوا:(يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، وتستمر التربية الأيمانية بالنصيحة والتوجيه في الصغر:(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وحتى قبيل مغادرة الحياة:(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، وسيشمل حق الأبناء اختيار الاسم الحسن، والتعليم الراقي، والنفقة بما يطبع مظهر الراحة عليهم حسب قدرة الأبوين.
* حق التملك والتكافل الاجتماعي:
وفي هذا الجانب اوضح الباحث: ان القرآن الكريم يبحث حق التملك لكل أحد رجل كان أو أمرأة ، فمن آل إليه مال أو سعى في كسبه يصبح ملكا خاصا به لا يجوز الاعتداء عليه :(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، والنساء كالرجال في حق التملك:(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، لكن القرآن الكريم يذكر بأن في هذا الحق حقا آخر يعطف على الفقراء ويرفع عنهم كواهل الألم والعوز:(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وفي هذا الحق ما هو واجب كالزكاة، وفيه ما هو مستحب مرغب فيه، وفي الحالين يذكر القرآن الكريم بضرورة أن تمتد الأيدي الميسورة على الفقراء بالحق وبالعطاء الجزيل:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ويحدد القرآن الكريم الحكمة من هذا الإنفاق عندما يبين بأنه مال الله، وليس الإنسان سوى خليفة لله، مستخلف في ماله وفي عباده إن احتاجوا إلى مال ربهم:(آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).
وانطلاقا من معرفة هذا الحق والخلفية الإيمانية التي تدفع المسلم إلى دفعه للفقراء فإن ذلك يجب أن يتم بعيدا عن أي امتنان أو إهانة:(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
* حق المنزل:
وحول هذه النقطة يقول الدكتور الهادي: ومن ضمن ما يتملكه الرجل والمرأة هو المنزل، فهو حق للرجل والمرأة معا: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)، ولربما يظن الرجل أنه الوحيد الذي يجب أن يشعر بالسكينة في بيته، أما الزوجة فاستمتاعها بمقدار ما تقدم من طاعة وإذعان، وذلك خطأ ينبه عليه القرآن، ويذكر الرجال بأن البيت كما ينسب إلى الرجل ينسب إلى زوجه أيضا:(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، فالبيوت هنا كما تنسب إلى الأب، والعم، والخال تنسب إلى الأم، العمة، والخالة أيضا وهكذا، يقول الله تعالى:(لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
من هنا فانه يجب أن تكون لهذا المنزل حرمة تمنع التجسس عليه، أو الدخول فيه بلا استئذان:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وهذه الحرمة ستكون للبيت بمن فيه، فلا يحق للزوج من منطلق الشك والتجسس على الزوجة أن يقتحم أسوار البيت بحثا عن المفاجآت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
إن اقتحام هذه البيوت، وإخراج أهلها منها هو اعتداء يحق معه للمرء أن يدافع عن بيته وحرمه:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
* حق التعليم:
وقال: ان العلم هو الميزة التي كرم بها الإنسان الأول (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وعلى ضوئها تحصل على التكليف الرباني العظيم؛ فأصبح طلب العلم واجبا على هذه البشرية إلى يوم القيامة، ويكفي أن أول آية تضع الهداية لهذه الأمة هي: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، والتعليم هبة ربانية لا يجوز منعها، فهي حق الإنسان أيا كان بغض النظر عن ديانته أو جنسه أو لونه أو وطنه:(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، كما أنه سيصبح واجبا على الدول والأفراد في رفد الأبناء بهذه الحصص التعليميه الكريمه.