روسيا ومنطقة الشرق الأوسط أصبحتا في مجال جيوسياسي مشترك بعد تأسيس الدول المستقلة في وسط آسيا والقوقاز، مما أحدث قدرا كبيرا من التداخل الأمني والاستراتيجي بين المنطقتين
تغيرت الخريطة السياسية الدولية مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي، وأثر ذلك على سياسات الدول الكبرى، حيث تفردت الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى وحيدة في العالم، وأصبح لديها القول الفصل في الكثير من شئون العالم. ونظرا لما تعانيه روسيا الاتحادية من خلل كبير داخل نظامها السياسي، ومن مشاكل متفاقمة ورثتها عن الاتحاد السوفيتي، حاولت أن تتقرب من الغرب من أجل الخروج من الأزمات التي تعصف بها، وعلى هذا الأساس صاغ الرئيس الروسي بوريس يلتسين سياسة تقارب مع الولايات المتحدة الأميركية تارة والتحالف معها تجاه بعض القضايا تارة أخرى، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأميركية ذا حضور في محددات وتوجهات السياسة الروسية بصفة عامة. وفي ظل محاولات روسيا للتقارب مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأميركية لإثبات الولاء وكسب الثقة فقدت السياسة الروسية توازنها تجاه العديد من القضايا الدولية. إلا أن تدارك الساسة الروس للموقف وٕاعادة تقييمه بعد فشلهم في إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأميركية، وفقدانهم للدور الذي كان يتمتع به الاتحاد السوفيتي على الصعيد الدولي، جعلهم يعيدون ترتيب أولوياتهم وصياغة استراتيجيتهم وفق مصالحهم تجاه قضايا الشرق الأوسط .

السياسة الخارجية الروسية بعد الحرب الباردة:

تتمتع روسيا بثقل سياسي مهم على مستوى المشهد الدولي، ذلك لأنها الوريث السياسي والعسكري للاتحاد السوفيتي السابق، إضافة إلى ذلك الطبيعة الجيوسياسية التي تتمتع بها روسيا من حيث الموقع الجغرافي ما بين آسيا وأوروبا، فهي تشكل حلقة الوصل وتقترب وتمتلك من منابع النفط والغاز، التي على أساسها قامت الحروب والأزمات في العالم في القرن العشرين، وهذا يجعلها طرفا محوريا وفعالا على المستوى الدولي. كانت توجهات السياسة الخارجية لروسيا بعد تفكك انهيار الاتحاد السوفيتي من أهم المعضلات التي واجهتها، في ظل المعطيات الجديدة المتمثلة في الانهيار الشامل للاتحاد السوفيتي، وفي ظل تشكل النظام الدولي أحادي القطبية الذي تحاول الولايات المتحدة الأميركية التفرد به وتزعمه. ومما زاد من معضلة بناء توجهات السياسة الخارجية الروسية إبان تلك الفترة أن روسيا كانت الوريث الشرعي والوحيد لتركة الاتحاد السوفيتي، فورثت التركة الدولية للاتحاد السوفيتي بما في ذلك مقعده في مجلس الأمن وسفاراته في الخارج، كما ورثت الترسانة العسكرية والنووية، كل ذلك وضع الساسة الروس أمام معضلة صياغة سياسة خارجية دولية تتناسب مع الثقل الدولي للوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي يتفق مع قدراتها العسكرية في ظل الضعف الاقتصادي والديون المتراكمة التي كانت نتاج الحرب الباردة التي انتهت بتفككه. فانقسم الرأي الداخلي للساسة الروس وصانعي القرار حول طبيعة السياسة الواجب اتباعها، والتي من المفترض أن تحقق الأهداف الروسية، والتي كانت أهمها الهدف الاقتصادي، لخروج روسيا من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، فكان هناك اتجاهان رئيسيان:
الاتجاه الأول: يرى ضرورة الاهتمام بالمشكلات الداخلية وٕايجاد الحلول لها قبل الانصراف إلى الشؤون الخارجية. وتطبيق مبدأ العزلة خلال المرحلة الانتقالية الصعبة للتفرغ لعملية إعادة البناء في الداخل.
الاتجاه الثاني: يرى ضرورة اتباع سياسة خارجية نشطة وفعالة، والحفاظ على المكانة الدولية لروسيا كإحدى القوى الكبرى.
انطلقت رؤية الساسة الروس الذين تقلدوا سدة الحكم في روسيا منذ نهاية سنة 1991 ، في ظل الرئيس الروسي يلتسين ووزير الخارجية كوزيريف من أهمية اندماج روسيا مع الحضارة الغربية، وبالتحديد مع التكتل المتمثل في مجموعة دول حلف الأطلنطي، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها إضعاف احتمالات عودة الشيوعية إلى روسيا، وأن روسيا لم تعد دولة كبرى وعليها اتباع سياسة مصلحية، أي "غير أيديولوجية"، وأن لديها كما كبيرا من المشاكل الداخلية "الاقتصادية والسياسية" التي أثرت في وضعها الدولي. ووفق هذه الاعتبارات صاغ الساسة الروس وعلى رأسهم يلتسين ووزير خارجيته كوزيريف
السياسة الخارجية الروسية والتي ركزت على الاتجاه غربا، والتحالف مع الولايات المتحدة من منطلق القبول بالمنظور الأميركي للعلاقات الدولية، وٕاعطاء التنازلات من طرف واحد، واتباع سياسة الحد الأدنى من التفاعل مع باقي دول كومنولث الدول المستقلة إلا بما يحفظ مصالح روسيا الحيوية، حيث بدأت روسيا تسعى لطمأنة الغرب في توجهات سياستها الخارجية من خلال تقديم التنازلات المنفردة، والتعاون العسكري مع الغرب. وتمثل ذلك في المناورات المشتركة للأسطولين الأميركي والروسي في البحر المتوسط في فبراير سنة 1992 ، وفي رصد الولايات المتحدة 400 مليون دولار لمساعدة روسيا وباقي دول الكومنولث على تدمير أو خفض ترسانتها النووية. كذلك الموافقة على فرض العقوبات على يوغوسلافيا، والعراق وليبيا. إلا أنه مع نهاية سنة 1992 ، بدأت تظهر متغيرات جديدة حدت بروسيا إلى التفكير في توجه جديد لسياستها الخارجية، على سبيل المثال معارضة أحزاب الوسط التي طالبت باتباع سياسة متوازنة تأخذ في اعتبارها مصالح روسيا في الشرق (آسيا الوسطى، والصين، والشرق الأوسط)، وتقوية علاقات روسيا مع دول الكومنولث المستقلة الدول، ناهيك عن ظهور متغيرات جديدة في آسيا الوسطى، مثلا التنافس التركي – الإيراني على آسيا الوسطى، الذي هدد المصالح الروسية في تلك المنطقة، وتدفق الروس من دول مجاورة، حيث وصل من كازاخستان وحدها سنة 1993 نحو 200 ألف روسي، مما هدد الاقتصاد الروسي، وتصاعد التيارات الأصولية في آسيا الوسطى واستعمال تلك التيارات للعنف، مما هدد بالتأثير على الأمن القومي الروسي، ومطالبة دول آسيا الوسطى روسيا بأن تلعب دور ضامن الأمن في تلك الدول، بالإضافة إلى معارضة الحزب الشيوعي الروسي والأحزاب القومية لسياسة يلتسين الخارجية لأنها أضعفت مكانة روسيا، مثلا ما قاله جينادي زيوجانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي: إننا ما زلنا بلدا يملك أكبر مساحة في العالم، واحتياطيات هائلة من المعادن وسكاننا الأكثر تعليما، ونتمتع بقوة صناعية وعلمية عظيمة، ونحتفظ بتكافؤ نووي مع الولايات المتحدة الأميركية، وعليه يتوفر لروسيا كل متطلبات الاستمرار في تأدية دور مهم في العالم، لكن ذلك لا يحصل لأن روسيا ما زالت تتبع ذلك النهج المخزي في الاقتصاد والسياسة الخارجية، مما جعلها معتمدة تماما على الغرب، وأخضع سياسته لمصالح رؤساء حلف الأطلسي. لقد فقدت الدولة تقريبا كل حكمتها وإرادتها السياسية. وعلى صعيد الحزب الديمقراطي ذي الاتجاه القومي دعا فلاديمير جيرنوفسكي مؤسسه وأبرز قادته وزعيمه الى إحياء الامبراطورية السوفيتية، والعودة إلى الحدود التي كانت عليها الامبراطورية القيصرية، وضرورة أن تتوسع حتى حدود الهند، وعارض قيام الكومنولث بوصفه عملا غير شرعي وغير دستوري، والتصدي للولايات المتحدة الأميركية والغرب، والتعاون مع القوى والدول المقهورة في النظام الدولي. ويرى أن هذا كلّه لا يمكن تحقيقه إلا بتغيير هيكل النظام العالمي القائم، ووضع الولايات المتحدة الأميركية فيه، فروسيا دولة نووية مثلها مثل الولايات المتحدة الأميركية. جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في روسيا في 12 ديسمبر 1993 والتي أسفرت عن وصول اليمين القومي المتشدد والشيوعيين كتعبير عن رفض السياسة الروسية الراهنة. كل هذه الأمور دفعت القادة الروس إلى إعادة بلورة سياستهم بما يتناسب ويتأقلم مع العوامل والمتغيرات الجديدة. توجهت روسيا صوب دول اوراسيا التي تمثل عمقا أمنيا لها، ومن هذه النقطة انطلقت المرحلة الثانية في السياسة الخارجية الروسية، والتي انتهجت نهجا أكثر ثباتا ذات صبغة روسية واضحة المعالم، التي ارتكزت على المصالح القومية الروسية والاستقلالية والتوازن. فجاء إعلان الحكومة الروسية نهاية عام 1993 عبر تصريح الرئيس الروسي يلتسين: إن روسيا تسعى إلى التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية على أساس التكافؤ، فالتنازلات تهين مشاعرنا الوطنية. وتصريحه أيضا: إن روسيا ليست الدولة التي يمكن الاحتفاظ بها في غرفة الانتظار، وٕانها ليست الدولة التي تقول نعم فقط. واتضحت معالم المرحلة الثانية في نهاية عام 1993 وبداية عام 1994 حيث بدأ يتحدث كوزيريف وزير الخارجية الروسي آنذاك عن أهمية التكامل مع دول الكومونولث، وحماية الأقليات الروسية، وزيادة مبيعات روسيا من الأسلحة إلى إيران، وٕاعادة بناء العلاقات بين الدولتين، وتصدير كميات ضخمة من السلاح إلى الهند. وانتقاد سياسة القصف الجوي الأميركي للعراق وتدخلها في نزاعات الدول كالنزاع الجورجي الروسي في أبخازيا، والنزاع الأرميني ـ الأذري حول ناجورنو قره باخ، والحرب الأهلية في طاجيكستان، واختلافها مع دول الأطلنطي حول المشكلة اليوغوسلافية، وفي الشرق الأوسط، عقدت صفقة بناء مفاعل نووي في بوشهر، وانتقدت علنا السياسة الأميركية تجاه العراق، وتبادلت الزيارات مع المسئولين العراقيين، وبدأت في بناء مسافة بين سياستها وسياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهو ما تمثل في الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، واستمرت السياسة على هذا النحو الجديد مع تعيين بريماكوف وزيرا للخارجية الروسية في يناير1996 ، الذي بلور نهجا أصبح يعرف باسم "مبدأ بريماكوف" في السياسة الخارحية الروسية، وتدور ملامح المبدأ حول إنشاء نظام عالمي يقوم على التعددية القطبية، واقترح إنشاء تحالف بين روسيا والصين والهند كمثلث استراتيجي يوازن القوة الأميركية، وفي هذا الإطار أسهمت روسيا في إنشاء منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، ومعارضة توسع حلف الأطلنطي في دول الكتلة السوفيتية السابقة، والدفاع عن تقوية دور الأمم المتحدة بعدما بدأ أن دورها يتوارى لحساب حلف الأطلنطي. استمرت السياسة الخارجية الروسية على هذا النهج الجديد الذي أعطى لروسيا في سياستها الخارجية جزءا من ثقلها الدولي. بعد تولي بوتين السلطة في أبريل 2000، اعتمد استراتيچية تهدف لدعم سلطة الدولة المركزية، وتشديد قبضتها على المؤسسات الاقتصادية والسياسية وتقوية قدراتها الاستراتيچية؛ وبالتالي بدأ في تقويض سلطة أباطرة رأس المال والسياسة في روسيا واعتقال بعضهم، كما اتجه إلى تعيين حكام الأقاليم الروسية بدلا من انتخابهم، واختيارهم ممن يعرفهم ويثق في قدراتهم. وقد أحكم بوتين كذلك سيطرته على ثروات روسيا من النفط والغاز، حيث تزامن هذا مع ارتفاع أسعارهما في السوق العالمي، ما أدى إلى انتعاش الاقتصاد الروسي، وارتفاع مستوى معيشة الفرد في الدولة الروسية، الأمر الذي زاد من شعبية بوتين داخليًّا بشكل غير مسبوق. انعكس هذا بوضوح على سياسة روسيا الخارجية حينما أعلن رئيسها أن سنوات الضعف والمهانة قد ولَّت، وطالب الولايات المتحدة وأوروبا بمعاملة روسيا باحترام، وكقوة لها مكانتها ودورها العالمي. واتجه بوتين إلى بناء علاقات شراكة مع كلٍّ من الصين والهند، وإلى استثمار ميراث الاتحاد السوڤييتي السابق، وما بناه في مناطق مثل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. الواضح أن بوتين قد كرَّس قدرًا ملحوظًا من اهتمامه لصياغة اتجاه جديد وقوي للسياسة الخارجية الروسية، تحاول استعادة المكانة التي كان يتبوأها الاتحاد السوڤييتي السابق في مرحلة الحرب الباردة، مع إحداث بعض التغييرات الجوهرية بحيث تتفق مع الوضع الجديد؛ ليمكِّنها من تحقيق طموحاتها في عصر العولمة وحرية الأسواق. ولهذا فقد اعتمدت روسيا الاتحادية في سياستها الخارجية عدة دوائر تعتمد على مراحل نموها ومدى استقرارها السياسي والاقتصادي. وفي كل هذه الدوائر كان الهدف الأسمى هو تحقيق الاستراتيجية الأمنية على المدى البعيد. ويمكن القول إن أهم أهداف السياسة الخارجية الروسية في هذه المرحلة تتمثل في إضفاء الطابع القومي على السياسة الخارجية الروسية، والتأكيد على ضرورة استرداد روسيا المكانة التي افتقدتها منذ قيامها، وإنهاء الانفراد الأميركي بموقع القمة. وحسب رؤية القيادة الروسية، فيجب اتباع خطة استراتيجية وعقلانية تفضي إلى إحلال التعددية القطبية محل هذا الانفراد، وعلى نحو يتناسب أكثر واتجاهات العالم الجديد. والسعي إلى علاقات متميزة وتعاون استراتيچي مع أصدقاء الاتحاد السوڤييتي السابقين، لا سيما الهند وإيران والصين والاتفاق مع دول الجوار الإقليمي حول كيفية إقرار السلام والاستقرار في المنطقة، علاوة على الواقعية في التفكير، وزيادة التعاون وتعزيز العلاقات مع كومنولث الدول المستقلة. والسعي إلى تعزيز النفوذ الروسي في الفضاء السياسي للاتحاد السوڤييتي السابق. ومنع انتشار الصراعات السياسية والعسكرية المؤدية لعدم الاستقرار بآسيا الوسطى، بالإضافة الى تعزيز الديمقراطية في روسيا.
وكان من أهم الخطوات التي اتخذها لتقوية سياسة بلاده الخارجية في مواجهة القوى العالمية الكبرى الأخرى اندماج روسيا في العديد من نشاطات السياسة الخارجية مثل مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، ومنتدى آسيا ـ باسيفيك للتعاون الاقتصادي، ورابطة الأمم لجنوب شرق آسيا، ومؤتمرات القمة الروسية مع الاتحاد الأوروبي... إلخ.
روسيا والشرق الاوسط:
تقوم السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط على مجموعة من الاعتبارات تشكل الإطار العام الذي يحكم سياسة روسيا الراهنة تجاه أزمات المنطقة، وتجاه توطيد علاقاتها مع الفاعلين المختلفين. أولا: تنطلق سياسة روسيا الخارجية عالميا وفي الشرق الأوسط أيضا، من قاعدة خدمة أهداف الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني الداخلي لتعزيز مكانتها على الصعيد الدولي. وتندرج هنا عدة أمور تحظى بأولوية روسية قصوى هي مد العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية مع الشركاء القدامى والجدد. ثانيا: إن روسيا ومنطقة الشرق الأوسط أصبحتا في مجال جيوسياسي مشترك بعد تأسيس الدول المستقلة في وسط آسيا والقوقاز، مما أحدث قدرا كبيرا من التداخل الأمني والاستراتيجي بين المنطقتين، وبالتالي فإن محرك السياسة الروسية يقوم على الحيلولة دون تحدي روسيا في مناطق نفوذها الأولى، سواء من دول جارة كإيران وتركيا أو بعيدة كالولايات المتحدة. ثالثا: إن سياسة روسيا الخارجية ـ رغم تجنبها الصدام المباشر مع الأميركيين والأوروبيين ـ تكون غالبا بمثابة رد فعل على السياسات الغربية، وبالقدر الذي يضع حسابات روسيا محل اعتبار في السياسات العالمية، خاصة مع تعدّد الخلافات بين روسيا والغرب في العديد من القضايا الثنائية والدولية. سياسة روسيا الشرق أوسطية أوضحها وزير الخارجية سيرجي لافروف لصحيفة "برافدا" الروسية بقوله: إن السياسة الروسية ليست موالية للعرب أو لإسرائيل، بل تهدف إلى ضمان المصالح الروسية القومية، والحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية ومع إسرائيل بذات القدر. وواضح أن هذا القول يعكس منطق المذهب البراجماتي لروسيا الجديدة وحساباتها الاقتصادية.
فرضت الجغرافيا على روسيا ـ تاريخيا ـ الاهتمام بالشرق الأوسط، بحكم أنها تشغل الحيز الأكبر من الكتلة الأوروآسيوية الملاصقة للشرق الأوسط، وقد بقيت السياسة السوفيتية تعطي اهتماما بالغا للشرق الأوسط حتى انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وعادت روسيا الاتحادية في عهد الرئيس بوتين لتولي اهتماما للشرق الأوسط بعد فترة ساد فيها تراجعا واضح لسياستها نتيجة تدهور الأوضاع الداخلية في روسيا، وانشغال القيادة الروسية بحل مشاكلها الداخلية المتفاقمة من ناحية، واتجاهها الواضح نحو الغرب والولايات المتحدة بغية الاندماج في الحضارة الغربية والحصول على المساعدات الاقتصادية اللازمة لنجاح الإصلاح الاقتصادي في روسيا. وبالنظر إلى السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، نجد أن ثمة مجموعة من الاعتبارات من أهمها تحقيق الأمن للحدود الجنوبية، ومنع امتداد الصراعات الإقليمية إلى المناطق الجنوبية من كومنولث الدول المستقلة الذي نشأ بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولا سيما أن روسيا تنظر إلى منطقة آسيا الوسطى والمنطقة العربية على أنهما أصبحتا مشتركتين في تكوين ما يطلق عليه القادة الروس اسم الفضاء الإسلامي الموحد". فتخشى روسيا من اندلاع صراعات إقليمية متصاعدة، تنعكس على نطاق واسع وتمس مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وضمان المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط عموما، والمنطقة العربية على وجه الخصوص على مختلف المستويات، والعمل على الاستفادة من القدرات الاقتصادية للمنطقة، إذ ترى روسيا أن هنالك إمكانية لإقامة روابط اقتصادية بين روسيا ودول المنطقة، وهو ما يمثل ضرورة حيوية لإنعاش الاقتصاد الروسي الذي يعاني الأزمات، من خلال إيجاد شركاء اقتصاديين وأسواق تجارية وسوق للسلاح. والسعي الروسي إلى إيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية، وتساهم في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة كي تتاح لروسيا فرصة الدخول في عملية السلام، وٕاثبات أن لديها قدرة ومكانة على الساحة الدولية، وهو ما يفسر السعي إلى إقامة العلاقات مع الدول المناهضة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، مثل إيران وسوريا، وقبلها العراق، من أجل الفوز بالتوازن الذي تستطيع من خلاله مواجهة الهيمنة الأميركية .وإعادة تأكيد الوجود النسبي الروسي في منطقة الشرق الأوسط، إذ ترى روسيا أنه إذا ما أرادت أن تحفظ هيمنتها على آسيا الوسطى، فيجب أن تعمل على تطوير العلاقات مع إيران. عموما، سعت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى هيكلة سياستها تجاه الشرق الأوسط، فقد وسعت استراتيجيتها السياسية تجاهه وفق أهدافها الاقتصادية ومصالحها الاستراتيجية، وبذلك تراجعت الأهداف الأيديولوجية التي استندت عليها سياستها في عهد الاتحاد السوفيتي. أما مصالح روسيا في الوطن العربي فقامت على جذب المساعدات والاستثمارات العربية ـ وبخاصة الخليجية ـ لمساعدة روسيا في التغلب على أزمتها الاقتصادية، وتنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وبلدان العالم العربي، والحصول على
المعاملة التفضيلية، وبخاصة مع بلدان الخليج باعتبارها أغنى بلدان المنطقة، وتنشيط تجارة السلاح الروسية، حيث يعتبر الوطن العربي سوقا مهما لمثل هذه التجارة.
يمكن تحديد ثلاث مصالح كبرى وأساسية تحدد نمط السلوك الروسي في الشرق الأوسط بصفة عامة، ومنطقة الوطن العربي على وجه الخصوص:
أولا: المزاحمة الاستراتيجية للولايات المتحدة من اجل إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، وإحدى وسائلها إلى ذلك هي تلك المشاغبة المستمرة والمُنهِكة للولايات المتحدة. ومثال ذلك ما جاء على لسان قائد الأسطول الروسي الأدميرال فلاديمير ماسورين في أغسطس 2007 من الإعلان عن دراسة تقضي بإعادة الأسطول الروسي من جديد إلى البحر المتوسط مدعومًا بقاعدة عسكرية روسية تُفضَّل أن يكون مقرها سوريا؛ وذلك ردًّا على إعلان الولايات المتحدة عن نيتها بناء نظام جديد للدفاع الجوي بحلول عام 2015.
ولعل معارضة روسيا الاتحادية للحرب على العراق كان إثباتًا واضحًا على سعي موسكو إلى إفشال المشروع الأميركي الأحادي في العالم بشكل عام، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ حيث أدركت موسكو أن المستنقع العراقي لن يكون بحال أسهل من المستنقع الأفغاني الذي وقع فيه الاتحاد السوڤييتي في ثمانينيات القرن العشرين، وكلَّف السوڤييت ماديًّا ومعنويًّا، وكان من بين عوامل نهايتهم. ولذلك أدركت روسيا تمامًا أن الإخفاق الأميركي في العراق وأفغانستان أو أي مكان تتورط فيه واشنطن في منطقة الشرق الأوسط سيدق مسمارًا جديدًا في نعش التفردية الأحادية الأميركية، وسيخلِّف فراغًا سياسيًّا وعالميًّا في خريطة النظام العالمي الجديد، مما يتيح المجال أمامها للعودة مرة ثانية إلى الساحة الدولية والشرق أوسطية، ولكن هذه المرة بقوة.
ثانيا: المصالح الاقتصادية الروسية في منطقة الشرق الأوسط. يجب الإشارة هنا إلى أن طبيعة التعاملات الروسية مع دول المنطقة مختلفة حاليًّا عما كان عليه الحال في الفترات السابقة التي كانت تعتمد بالأساس على العنصر الأيديولوجي الذي كان يتغلب في معظم الأحيان على المنطق الاقتصادي.
ثالثا: البعد الأمني؛ إذ يمكن القول إن السياسة الخارجية الروسية الجديدة تنطلق من رؤية ترتكز ـ في أحد مرتكزاتها ـ على إيلاء أهمية للقيمة الجغرافية والاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط؛ باعتبارها تمثل مكان الصدارة في سلم الاهتمامات العالمية، وأنه لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتشكل بعيدًا عن تلك المنطقة الاستراتيجية؛ لما تمثِّله من قلب العالم: حيث يتقرر فيها مراكز التوازنات والقوى الدولية، وتمثِّل منصة ارتكاز ورافعة سياسية لأي دور محتمل لأية قوة أميركية كانت أو روسية أو أوروبية. والشرق الأوسط يمثل حزامًا غير محكم الأطراف يحيط بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز اللتين تعتبرهما روسيا مجالا حيويًّا لها، وتُسخِّر كل إمكاناتها لمنع أي تعدٍّ يهدد تلك المناطق. لذا كان اهتمام موسكو منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بشكل خاص بكلٍّ من تركيا وإيران؛ ذلك لأنهما أكثر دولتين في الشرق الأوسط رغبةً في النفاذ إلى هاتين المنطقتين، ومحاولة اختراقهما والسيطرة عليهما؛ وهذا نظرًا لوجود نوع من الارتباط الديني أو العرقي أو اللغوي الذي بين هاتين الدولتين وبين الشعوب القوقازية وفي آسيا الوسطى، ناهيك عن أن توثيق العلاقات مع إيران يفيد بقدر ما في إزعاج الولايات المتحدة، وفي جني أرباح اقتصادية لا بأس بها من إيران، وبالتالي فإن محاولة التقارب التي سعت إليها موسكو مع طهران كانت تعتبر إحدى الوسائل المهمة التي استخدمتها روسيا في تحجيم طهران عن استعمال الورقة الإسلامية بين مسلمي روسيا الذين يُقدَّر عددهم بنحو 20 مليونًا، وبالأخص في منطقة القوقاز التي تعاني فيها موسكو مشكلات حادة، علاوةً على منطقة آسيا الوسطى التي تعتبرها مجالا حيويًّا يجب أن يظل مقصورًا عليها. كذلك مثَّلت مسألة الإسلام السياسي العابر للحدود، والذي اقترن لدى غالب دول الغرب والشرق بفكرة الإرهاب منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت روسيا بوتين تزيد اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، والعمل على توسيع قاعدتها مع بلدان تلك المنطقة، وهو ما دفع موسكو للاهتمام المتزايد بتلك المنطقة في الوقت الحالي، لا سيما بعد أحداث الربيع العربي؛ تخوفًا من وصول شعلة تلك الأحداث إلى المحيط الحيوي لروسيا ـ والذي شهد من قبل ما عُرِف باسم "الثورات الملونة" ـ وذلك في ظل الصعود الإسلامي في الحكم الذي شهدته معظم دول أحداث الربيع العربي.
تعاملت روسيا بواقعية مع موضوعات شرق أوسطية لها أبعادها الدولية المتشابكة، ووفقًا لمصالحها السياسية والاقتصادية. وحاولت في السنوات الأخيرة الحفاظ على مكانتها الدولية دون أن تكون ركيزتها في ذلك الأحلاف العسكرية، وبالتالي نشطت الدبلوماسية الروسية محاولةً إيجاد الحلول السلمية وفقًا لمقاييس القانون الدولي العام لنزاعات المنطقة، ودون تدخل في شئون دولها الداخلية.
على الرغم من معارضة موسكو للمخطط الأميركي بغزو العراق، واستخدام حق الفيتو في هذا حيال مشروع قرار مجلس الأمن الذي طُرِح في فبراير 2003 ويضع الحالة العراقية تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإنها ـ أي موسكو ـ لم تتخذ أية إجراءات ضد هذا الغزو الأميركي بعد وقوعه؛ وذلك لكي تكون شريكًا في التسوية على مستقبل الوجود الأميركي في العراق عن طريق تدشين أمر واقع في مجلس الأمن، مع المطالبة المستمرة والدائمة بتحديد موعد لانسحاب القوات الأجنبية من العراق. هذا ما يبرر ما يراه بعض المحللين السياسيين من أن مواقف القيادة الروسية على المستوى الرسمي حيال أزمة الغزو الأميركي للعراق قد اختلفت عن المواقف الشعبية الروسية التي خرجت في تظاهرات منددةً بهذا الغزو، على حين اتسم الموقف الرسمي الروسي بالسلبية بادئ الأمر. إلا أنه وبعد مرور سنوات على الاحتلال الغربي للعراق، بدأت معالم السياسة الروسية تجاه تلك القضية تتضح أكثر فأكثر. فقد تحالفت موسكو بوتين مع برلين جيرهارد شرودر وباريس جاك شيراك؛ لخلق محور رفض في القارة الأوروبية ضد الهيمنة الأميركية، وإن لم يُشكِّل هذا التحالف نتائج ملموسة على الأرض، فإنه قد شكَّل ضغطًا كبيرًا على لندن توني بلير وواشنطن جورج دبليو بوش، وأوصل رسالة للعالم مفادها بأن ما يجري على أرض العراق ليس مشروعًا "دوليًّا"، إنما هو مشروع "هيمنة أميركي".
والجدير بالإشارة إلى أن هذا الموقف الروسي المتحالف مع بعض دول أوروبا جاء بعد تدارس الاتجاهات الروسية حيال التعامل مع تلك القضية، والتي تمثَّلت في نهجين رئيسيين: أحدهما كان يدعو إلى الانخراط في التحالف الحربي ضد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بقيادة الولايات المتحدة الأميركية؛ وذلك من منطلق حسابات الربح والخسارة، وتحت ذريعة الحفاظ على المصالح الروسية الاقتصادية في عراق ما بعد حقبة صدام حسين الذي ارتأى أنصار هذا النهج رحيله إن آجلا أو عاجلا، والآخر دعا إلى النأي بالنفس، والاكتفاء بعدم عرقلة الخطط الأميركية، مع الاحتفاظ بالقدرة على المناورة في الوقت المناسب، سواءً عن طريق حق الفيتو بمجلس الأمن، أو باستخدام الوسيلة العسكرية وفقًا للظروف التي ستسفر عنها الحرب على العراق وقتئذٍ. ودخلت روسيا بعد ذلك في سياسة تبادل المصالح مع واشنطن. وقد بدا ذلك واضحًا عندما رست صفقة تحديث حقول النفط العراقية على الشركات الروسية في 13 أكتوبر 2009. وقد فُسِّر ذلك على أنه جاء إرضاءً لموسكو في العراق؛ كي تتخذ واشنطن ـ في مقابل ذلك ـ موقفًا روسيا مؤيدًا ـ أو على الأقل غير معارض ـ للسياسة الأميركية في أفغانستان وإيران. ومع هذا، فإن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لم تكونا راضيتين عن السلوك والدور الروسيين في الشرق الأوسط، على الرغم من وقوف روسيا ضد التعصب والتطرف الإسلامي في بلاد القوقاز، ورغم دعم موسكو للقوات الشرعية اللبنانية ضد المتطرفين الإسلاميين في مخيم نهر البارد شمال لبنان صيف 2008.
ومن القضايا الأخرى الإرهاب. لقد حاولت روسيا تقديم تعريف لمفهوم الإرهاب يختلف والتعريف الغربي والأميركي للمفهوم. ففي حين اعتبرت واشنطن الإرهاب عنفًا ذا باعث سياسي على أهداف غير حربية يرتكبها عملاء دولة أو مجموعات وطنية فرعية، اختلفت الرؤية الروسية مع هذا التعريف؛ حيث رأت موسكو أعمال المقاومة التي كانت تقوم بها الحركات الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي من أعمال مقاومة الاحتلال، وبالتالي أبدت تعاونًا كبيرًا مع تلك الحركات (كحماس وحزب الله)، على حين اعتبرت واشنطن تلك الحركات والمنظمات إرهابية يُحظَر التعامل معها.
وبعد تطور نزاع الشيشان في جنوب روسيا، بدأت الأخيرة تغير وجهة نظرها فيما يتعلق بما يسمى "الإرهاب الإسلامي"؛ مراعاةً للغرب، وتأمينًا لسكوته عن دورها في الشيشان، وهو ما سبَّب لموسكو جفاءً من قِبَل بعض الدول الإسلامية والعربية، بيد أن بوتين استدرك الأمر، وطلب دخول روسيا منظمة المؤتمر الإسلامي كعضو مراقب، وهو ما تم قبوله عام 2003. واستمرت موسكو على موقفها غير الثابت من مفهوم الإرهاب، وتحديدًا من محاولات إلصاق هذه التهمة بالإسلام. لكن تنامي التطرف عند منظمات إسلامية متعددة، لا سيما بعد العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق، واستمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان والشعب الفلسطيني، ومناداة هذه المنظمات بإعادة الخلافة الإسلامية حتى كل البقاع التي يقطنها المسلمون، أثار امتعاض موسكو وتخوفها. ومع أن وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف قد أعلن أن بلاده والعرب متفقون على مكافحة الإرهاب والتعصب الديني والسياسي، فإن موسكو لم تسلم بهذا الموقف الذي راعت فيه مصالحها الحيوية مع العرب والمسلمين من انتقادات الجانب الإسرائيلي الذي كان يتهمها بدعم الإرهاب عن طريق تزويد إيران وسوريا بالسلاح الذي يصل إلى حماس وحزب الله المُصنَّفتين لدى الولايات المتحدة وإسرائيل كمنظمات إرهابية.
ومن القضايا الأخرى المعاهدات النووية والعسكرية، خاصة قضية أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط حيث كانت روسيا باستمرار ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وذهبت إلى الدعوة علانيةً إلى تضمين معاهدة الأمن الأوروبي فقرةً تدعو لمنع تطوير أسلحة الدمار الشامل، واحترام القانون الدولي الإنساني. وخلال زيارته للقاهرة في 21 يونيو 2009، أعلن الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف عن تأييده للمبادرة المصرية بجعل منطقة الشرق الأوسط منطقةً خاليةً من أسلحة الدمار الشامل. كما اتخذت موسكو نفس الموقف حيال زيارة الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان لموسكو في 25 فبراير 2010. علاوة على قضية التعاون العسكري مع الدول العربية حيث قدمت موسكو نفسها بعد انهيار الاتحاد السوڤييتي ـ كدولة تسعى لمد كافة الخطوط الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع الدول العربية. وترى موسكو أن الشرق الأوسط هو السوق الأهم بالنسبة لروسيا للتعاون معه في كل المجالات. وبالرغم من عدم الرضا عن مستوى العلاقات بين روسيا والدول العربية، لا سيما الشرق أوسطية منها، إلا أن مجموعة كبيرة من الاتفاقيات التي وُقِّعت كان لها آثارها المهمة، خاصةً تلك التي تتعلق بشراء السلاح الروسي وبإنشاء مفاعلات نووية للأغراض السلمية. وقد استطاعت روسيا الاتحادية أن تلج وبقوة كبيرة إلى أسواق بيع الأسلحة بالعديد من الدول العربية كانت على قطيعة سابقة مع الاتحاد السوڤييتي السابق. ولهذه الغاية تم توقيع مجموعة كبيرة من الاتفاقيات في مجال تصدير الأسلحة المختلفة إلى دول الخليج العربي، مثل المملكة العربية السعودية، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة.
إن موسكو تعتبر الشرق الأوسط منطقة جغرافية مجاورة لحدودها الجنوبية، وهي مهمة بالنسبة لمصالحها العليا، ومؤثرة على أمن روسيا القومي وعلى اقتصادها في آنٍ معًا. وتنظر موسكو إلى هذه المنطقة باعتبارها بقعة أرضية متواصلة مع المساحة الأوراسية المترامية، تتطلع باستمرار إلى التواصل معها.
وبالنسبة للدول العربية، فالعلاقات العربية ـ الروسية ليست بالحديثة، وإنما تمتد لقرون طويلة خلت، يرى الروس أن المنطقة العربية هي منطقة مجاورة تقع على أطراف منطقة "أوراسيا" التي تمثِّل مع أوروبا السلافية (البلقان) منطقتين مهمتين لجمهورية روسيا، وبالتالي فإن لهما الأولوية في السياسة الخارجية لموسكو منذ زمن بعيد. وساعدت عدة عوامل على تحقيق التواصل في العلاقات بين روسيا والبلدان العربية، أبرزها كون ملايين الروس يدينون بالإسلام، وقد ساعد على تدعيم العلاقات الدينية بين روسيا والعرب هو سقوط الشيوعية وتخلي الوريث الروسي عن هذه الأيديولوجية. وقد امتدت العلاقات من النواحي الثقافية والدينية والسياسية إلى المناحي الاقتصادية والتجارية والإعلامية؛ وذلك لما للجانبين الروسي والعربي من قدرة إنتاجية هائلة من الغاز والنفط، وبالتالي فإن التعاون بينهما يلعب دورًا كبيرًا ذا بالٍ مهم في تحديد مستقبل أسواق تلك المنتجات الحيوية في العالم. بيد أن هذا التطور في شتى مجالات العلاقات بين الجانبين لم يحل دون حدوث حالات من الامتعاض وعدم الرضا من سياسة روسيا جراء سماح السلطات الروسية للآلاف من اليهود الروس بالهجرة إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلال التوازن والتركيبة الديمغرافية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في المناطق المحتلة، ما قاد إلى أن صار هؤلاء المهاجرون أداة ضغط على كلٍّ من الحكومتين الإسرائيلية والروسية. ولعل وصول أحد هؤلاء المهاجرين الروس إلى أعلى منصب في وزارة الخارجية الإسرائيلية أفيجدور ليبرمان خير دليل على هذا. وعليه فإن روسيا تنطلق في توجهاتها السياسية تجاه قضية الشرق الأوسط والمنطقة العربية الأولى، وهي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من معايير ومحددات معينة، منها وجود جالية روسية كبيرة ومؤثرة في إسرائيل كما ذُكِر، وباعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، وباعتبارها كذلك جزءًا من "الرباعية الدولية" الراعية لعملية السلام في الشرق الأوسط.
إن الطرفين العربي والروسي كما يعتقد الكثير من الباحثين والمحللين للشأن الروسي والمنطقة العربية ـ في احتياج للتعاون فيما بينهما، بصرف النظر عن تباين المصالح. فالطرف الروسي يمثل دون شك شريكًا أساسيًّا في تحقيق النهضة العربية؛ إذ لديها ـ أي روسيا ـ الخبرة والتقنية، والرغبة في تقديم مساعدة حقيقية وفعالة. كما أن هناك استجابةً وإقبالا واضحيْن من جانب الدول العربية للتعاون مع روسيا. وقد شهد العقد الماضي تطورًا ملحوظًا وإيجابيًّا في العلاقات العربية ـ الروسية.
إضافةً إلى ذلك، فإن روسيا أضحت أكثر ميلا واستعدادًا للتعاون مع العالم العربي ككيان إقليمي، وليس بشكل منفرد كل دولة على حدة، كما هي الحال في مواقف العديد من دول كبرى أخرى ترفض من حيث المبدأ مفهوم "الوطن العربي"، وتسعى إلى إذابته في كيان أكبر "شرق أوسطي" أو "متوسطي" غير متجانس أو محدد الهوية. وتتضح تلك النظرة الروسية للمنطقة العربية ليس من تصريحات القادة الروس فحسب، وإنما كذلك من خلال الزيارات الرئاسية التي يقوم بها كبار مسئولي الدولة الروسية، وعلى رأسهم الرئيس بوتين ورئيس وزرائه ميدفيديف وغيرهم من الوزراء، إلى المنطقة العربية، والتي تحمل دلالات خاصة حول أهمية العالم العربي بالنسبة لروسيا.
ترتبط المصالح الروسية في المنطقة العربية بثلاثة قطاعات رئيسية، هي: الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، والتعاون العسكري. ويحتل التعاون والتنسيق في مجال الطاقة قمة أولويات السياسة الروسية في المنطقة العربية، وحوله تتمحور الدبلوماسية الروسية والتقارب الروسي مع الدول العربية، لا سيما دول الخليج العربي، ويلي ذلك أوجه التعاون الأخرى، سواء في المجال التقني أو الاقتصادي أو الاستراتيجي العسكري. فقطاع الطاقة يمثل أحد المجالات الأساسية التي تتلاقى فيها المصالح العربية والروسية، وهو جوهر الشراكة العربية ـ الروسية في المستقبل والدعامة الأساسية لها.
على الصعيد الاقتصادي، تمثل المنطقة العربية سوقا مهمة ذات قوة استيعابية كبيرة للصادرات الروسية من السلع الاستراتيجية والمعمرة، مثل الآلات والمعدات والأجهزة والشاحنات والحبوب. وفي عام 2006، بلغ التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية 5.5 مليار دولار. وتأتي مصر والجزائر والمغرب في مقدمة الشركاء التجاريين لروسيا في المنطقة، وعادة ما يميل الميزان التجاري لصالح روسيا بفارق كبير جدا. كذلك، تسعى روسيا إلى تنشيط صادراتها من الأسلحة للمنطقة، ليس انطلاقا من اعتبارات سياسية أو أيديولوجية، ولكن نظرا لما تمثله عوائدها من مورد مهم للدخل القومي، وذلك ليس فقط لحلفائها التقليديين في المنطقة، لا سيما سوريا والجزائر وليبيا واليمن، ولكن من خلال فتح أسواق جديدة في الأردن ودول الخليج العربي، والتي تعد سوقا تقليدية للولايات المتحدة والدول الغربية. وتتعاظم المصالح الاستراتيجية الروسية في الحالة السورية، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لقاعدة طرطوس البحرية السورية التي تستخدمها القوات البحرية الروسية، والتي تعد قاعدة التموين الوحيدة للأسطول الروسي في منطقة البحر المتوسط. يضاف إلى ذلك عشرات المشروعات المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، التي قد تتأثر نتيجة موجة عدم الاستقرار التي تجتاح الدول العربية. وعلى ضوء التداعيات السلبية المتوقعة لهذه الثورات على المصالح الروسية، أكدت موسكو أنها تريد استقرار الأوضاع في بلدان الشرق الأوسط، لأن أية قلاقل في المنطقة تضر إضرارا مباشرا بمصالح روسيا. وأشار وزير الخارجية الروسية لافروف إلى أن سوريا من أهم الدول في الشرق الأوسط، وأن زعزعة الاستقرار هناك ستكون له عواقب وخيمة في مناطق بعيدة جدا عن سوريا نفسها. فروسيا ترى أن سوريا بمثابة "حجر زاوية" في أمن منطقة الشرق الأوسط، وعدم استقرار الوضع فيها أو نشوب حرب أهلية سيؤدي بدوره حتما إلى زعزعة الوضع في بلدان مجاورة، خاصة في لبنان، ويؤدي إلى صعوبات في المنطقة كلها، وتهديد حقيقي للأمن الإقليمي. في النهاية يجب على الدول العربية أن لا تحدد مستوى علاقتها بروسيا، بناء على الإرث التاريخي والسياسي للاتحاد السوفيتي، ولا على محاولات اللعب على التنافس والصراع التاريخي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وإنما يجب أن تكون الصورة واضحة عندنا، فروسيا اليوم ليست هي روسيا الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فغايات روسيا اليوم في الساحة الدولية ليست أكثر من مجرد تحقيق مصالح تكتيكية مؤقتة، لكنها تدرك أن لها سقفًا محددًا يفرضه واقع القدرات الاقتصادية والعسكرية بالمقارنة مع القدرات للولايات المتحدة. لهذا من المهم جدًّا أن ندرك أن روسيا ليست ذلك القطب الدولي المنافس للولايات المتحدة، وأن نكون على أتم اليقين أن الولايات المتحدة تدرك ذلك، لهذا فالأجدى أن يتم إعادة تعريف العلاقة مع روسيا وفق معطيات وتصورات الحاضر والمصالح الاقتصادية الراهنة والرؤى السياسية، وليس بناءً على معطيات تاريخية ولى عليها الزمن، عند ذلك فقط نستطيع أن نبني علاقات مع روسيا أكثر توازنًا وأكثر تحقيقًا للمصالح العربية، وبدون تهويل وتفخيم للدور الروسي في الساحة الدولية.

محمد نجيب السعد