رام الله - العمانية:
مرت هذا الشهر الذكرى السنوية لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي ملأ الدنيا في العصر الحديث وشغل الناس وترك أثره على شعراء أجيال جايلته أو أتت بعده، ومن النادر أن تتبلور اليوم تجربة شعرية إلا وتتهم بالنفس الدرويشي.
وإذا كان الشعراء يخلدهم شعرهم دون غيره فإن شاعرا مثل محمود درويش أعطى قيمة لكل ما له علاقة به .. دفاتره وأقلامه وصحفه ومكتبه وكل شيء مر إلى جواره. وأرادت بلدية رام الله أن تصنع من كل ذلك متحفا اختارت له أن يكون في أعلى مكان في رام الله، بحيث يكون مطلا على القدس العاصمة التاريخية لفلسطين. وفي تلك الربوة العالية يرقد الشاعر رقدته الأخيرة وقصيدته تيمم حروفها شطر القدس. في ذلك العلو تبدو رام الله أكثر جمالا وأكثر شموخا، ويبدو شاعرها متربعا على أعلى نقطة تتوارى عنها كل مستوطنات العدو وثكناته. وهنا حيث المتحف وحيث الضريح ثمة حديقة جميلة اختارت لها البلدية اسم "حديقة
البروة" والبروة هي القرية التي ولد فيها محمود درويش في مدينة الجليل المعروفة. وتبدو الحديقة/ المتحف فوق هذه الربوة المرتفعة من أجمل بقاع مدينة رام الله الجميلة، وأكثرها قربا إلى القدس، فيمكن بسهولة أن تسير قليلا تاركا الضريح خلفك يرنو إلى رام الله لترى أنوار القدس تتلألأ بجمال يدمي العين. "من الوطن إلى محمود درويش" العبارة التي خطها المتحف بجانب الضريح. الوطن الذي أعطاه درويش كل عمره وحياته استطاع أن يعطيه هذه الحديقة بمساحاتها المترامية ويعطيه قبرا في عمق الوطن الذي حُرم الكثيرون من الحصول على شبر منه حتى بعد الموت. وهناك قصاصات لنصوص شعرية نشرها الشاعر في صحف قديمة مثل جريدة الاتحاد الاشتراكي الذي رأس تحريرها في مرحلة من مراحل الكفاح والنضال والصراعات الأيدولوجية التي لا تقل عن الصراعات الميدانية، ونوتات كتب فيها ملاحظاته ومشاهداته، إضافة إلى مجموعة دواوين الشاعر.
وفي الزاوية اليمنى من المتحف تنتصب جدارية لصور الراحل، جدارية تضم صور الراحل الشخصية أو تلك التي تجمعه بشخصيات معروفة مثل الشهيد الرمز ياسر عرفات وفدوى طوقان وغيرهما الكثير. وفي الزاوية، أو بالقرب من الخاصرة ثمة جدارية تحمل نصا لا يمكن إلا أن يكون ناطقا، يمكن أن يسمع صوته من القدس أو من الجليل أو حتى من يافا وحيفا وتل
الربيع، واضحا لا لبس فيه مكتوبا بدم الشاعر: "أيها المارون بين الكلمات العابرة / منكم السيف ومنا دمنا / منكم الفولاذ والنار .. ومنا لحمنا / منكم دبابة أخرى .. ومنا حجر/ منكم قنبلة الغاز ومنا المطر/ وعلينا ما عليكم من سماء وهواء/ فخذوا حصتكم من دمنا/ وانصرفوا../ وادخلوا حفل عشاء راقص .. وانصرفوا/ وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء/ وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء". وورد الجليل الضارب في علاقة أزلية بالشاعر وبنصه يحرس ضريحه كما تحرس ظهر ضريحه القدس وبينهما بعض من أشجار السرو، بينما ييمم شاهد قبره ناصية رام الله حيث قضى الراحل بعضا من حياته هناك والتقى بالكثير من الأصدقاء وكتب الكثير من قصائده التي حملته إلى كل أصقاع المعمورة. وداخل المتحف وبعد أن تمر بلوحة بلاستيكية يمكن أن توصف بجدارية فيها بعض من تاريخ درويش وسيرته المختصرة .. وأول عبارة تواجهك وأنت تعبر إلى داخل المتحف مقطع قصير من قصيدة درويش المشهورة "الآن في المنفى":"قل للغياب: نقصتني/ وأنا حضرت../ لأكملك" وتبدو ثيمة الغياب تطارد درويش حتى في متحفه. والحق أن المتحف مصمم بحيث يشبه محمود درويش تماما. ثمة تمازج جلي بين الضوء والظلال، وبين عتمة الألوان رغم حضور اللون الأبيض. تمازج الألوان والظلال مع مقتطفات القصائد المختارة بعناية يكشف الكثير من تفاصيل درويش ومن نبوءات قصائده الكثيرة رغم أن نص الجدارية القادمة في المتحف يحمل المقطع الآتي:
"مَنْ أنا لأقول لكمْ
ما أقول لكمْ ؟
وأنا لم أكنْ حجرا صقلته المياه
فأصبح وجها
ولا قصبا ثقبته الرياح
فأصبح نايا... أنا لاعب النَرْد،
أربح حينا وأخسر حينا
أنا مثلكمْ
أو أقلُّ قليلا"
يضم المتحف إضافة إلى القصائد، الجداريات التي تزين جدرانه وتتمازج مع ألوانه وظلال مجموعة كبيرة من مقتنيات الراحل. بطاقة هويته الإسرائيلية، وجواز سفره الفلسطيني الذي أصدرته له السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، وشهادة الصف الثالث الابتدائي. والإبريق الذي كان يعد فيه قهوته، وفنجان القهوة، وسبحة يبدو أنه كان يحملها. وأيضا مكتبه الذي كان في شقته في باريس ثم أتى به إلى بيته في عمّان. ومجموعة من المسودات التي كان يكتب عليها قصائده قبل أن يبيضها تماما. وتكشف المسودات التي جمعها المتحف من عدة أماكن مدى ترتيب الشاعر لنصوصه وحرصه على تنسيق الصفحة، فليس ثمة الكثير من الحذف فوق المقاطع إلا ما ندر، كما يبدو واضحا أن خط الشاعر كان جميلا أيضا إضافة إلى أنه منسق.