في ديوانها الأخير "حبات مطر" عمدت الشاعرة المغربية سعدية بلكارح إلى توظيف تقنية طريفة في ترتيب قصائد الديوان، إذ جعلت كل قصيدة تنتهي بقطعة شعرية قصيرة جدا، اختارت أن تسميها "سعديات"، وإن كان هذا الأمر قد ساهم في تحقيق جمالية لا غبار عليها بالنسبة للديوان ككل، كما أنه منح للقارئ متنفسا مرغوبا قبل الانتقال إلى قراءة القصيدة التالية، فإن لذلك علاوة على ذلك دلالة معينة، حاولت الشاعرة تمريرها إلينا بسلكها هذا النهج المبتدع، أقله أنها شاعرة لا تركن إلى السائد واالرائج، بل تحاول أن تضع بصمتها الخاصة شكلا ومضمونا، راكبة بذلك صهوة التجريب التي لم تخذلها أبدا.
وفي وقفتنا هذه عند هذه "السعديات" سنحاول تلمس جوانب التميز والاختلاف في هذه النصوص، التي جاءت منفصلة، لكنها في الآن ذاته متصلة بما ذيلته من نصوص.
ولعل أول ملاحظة تستوقفنا في هذا الصدد التسمية "سعديات"، التي جاءت على صيغة جمع مؤنث سالم، نكرة، لاسم "سعدية"، الذي ليس سوى اسم الشاعرة، ولعل لذلك دلالته الكبرى، فأن تختار الشاعرة اسمها لإطلاقه على نصوص بعينها، فهذا يعني أنها نصوص مميزة عندها أولا، كما أنها ثانيا تعبر عن شخصيتها بشكل مباشر تقريبا، ولعل هذا الانطباع له ما يبرره، إذ أن أغلب"سعديات" إن لم تكن كلها قد هيمن عليها ضمير المتكلم، أي حضور الذات، ذات الشاعرة، وكأني بها تنفث من خلال تلك النصوص / الفصوص بعضا منها أو كلها.
أما الملاحظة الثانية وهي بطبيعة الحال تتكامل مع الأولى، فلغة سعديات وتراكيبها جاءت أبسط من لغة القصائد الرئيسية في الديوان، وكأن الشاعرة اختارت عن عمد أن تقول لنا من خلال القصائد الطويلة ها هو الشعر، ومن خلال سعديات ها أنا بسيطة وسلسة كرشفة ماء أو دفقة نسيم عليل.
ولعل هذه الملاحظة مما جعل هذه "السعديات" أقرب في بنيتها وروحها إلى شعر الهايكو في بساطته وعمقه الدلالي، كما أنها تنتسب من جانب آخر إلى الكتابة الشذرية بما لها وما عليها، تقول الشاعرة في إحدى سعدياتها:
الربيع يتنفس لون البنفسج..
بُلْبُلَةٌ تلثُمُ شِفاه الصبح..
قلبان يحتسيان العتاب...
ومن الملاحظات التي يمكن أن يسجلها القارئ كذلك وهو يتصفح هذه "السعديات" حضور الزمان في أكثرها، ويمكن أن ندقق أكثر لنقول حضور وقت المساء، فلقد تكرر ذلك في أكثر من نص، ولذلك دلالته بلا ريب، فهو لا يؤشر فقط على نهاية يوم طويل، والخلود إلى الاسترخاء، بل هو كذلك تتويج لنهاية أخرى وهي نهاية القصيدة، وهذا مما يجعل اختيار الشاعرة عميقا وذكيا وبعيدا كل البعد عن التعاطي العبثي مع الكتابة، فسعديات كما أنها تتويج للقصائد، فإنها كذلك تتويج ليوم كامل من البذل والعطاء في الحياة والكتابة. تقول الشاعرة:
رطلٌ من الوجع يجتاح الأفق
يعربد المساء فوقَ كَوْماتِ الحُمَمِ..
فوضى تعتري أجندة الحياة..
...
كما أن الحقل الدلالي للطبيعة حاضر بقوة في سعديات ببعدها الواقعي والرمزي، فالشاعرة قد اقتبست من الطبيعة ما يسعفها في التعبير عن حالتها النفسية، التي غالبا ما تكون قد أخذ منها الإرهاق مأخذها، إذ يبدو أن هذه "السعديات" لا تطاوعها الكتابة إلا خلال الليل المتأخر، حين يعم الهدوء، ويتاح للجسد والروح التعبير عن نفسيهما بما يناسبهما، تقول الشاعر سعدية بلكارح:
سحائبي تمرَّدتْ..
هطلتْ مطرا أزرق
فأنبتتْ أرضي حجارةً
وصوتاً أحمر..
إنه نفسه ذلك المطر اللذيذ والواخز الذي حضر بقوة في قصيدة "حبات مطر"، تلك التي توجت الديوان باسمها، مطر يطهر الذات من تعبها، ويرد لها بعضا من ألقها بعد إرهاق ووهن، لا يمنعان الشاعرة من تجديد حنينها إلى ذاتها وإلى حلمها المتأبط كآبته، والماضي في طريق تحيط به الألغام من كل جانب، وفي كل مرة تمد له يدا حانية لتنتشله من فوضى الكينونة والمآل، تقول الشاعرة:
مرْهَقَةً..تلوكُنيِ الأصداءُ وأنا أستحْضِرُ عِطرَ
معطفِك الرماديِّ..
ألملمُ شَتاتي المركونَ خلفَ وخْز الذاكرة
أتوضَّأُ بِهمْسِ عينيْكَ العسلِيتينِ..
أتفَيَّأُ ظلكَ المصلوبَ على ناصيةِ المدى.
أبعثر صمتي الغارق فيكَ..
فأرحلُ إليكَ..

مصطفى لغتيري
أديب وناقد مغربي