لم أمانع عندما أخبرني الممرض، بأن مريضا آخر سيشاركني الغرفة.
فالغرفة واسعة، وبها سريران خشبيان وخزانتان صغيرتان وكرسيان.
الشيء الوحيد المشترك فيها هو دورة المياة.
كان شرطي الوحيد أن لا يقوم بإزعاج أمي أو الحديث عنها، ووعدني الممرض بأنه لن يفعل.
وهكذا أصبح أحمد زميلي في الغرفة.
كان في السادسة عشر، أي أكبر مني بسنتين. وكان نحيلاً لدرجة أن ملابس المصحة البيضاء تبدو مضحكة عليه.
عندما أتى لم أتحدث معه، فأنا لا أتحدث مع الغرباء، مثل ما أوصتني أمي.
وهو لم يتحدث معي أيضاً.
قضى ثلاثة أسابيع يتحدث فقط مع سريره والكرسي والخزانة.
كان مشغولاً معهما، لدرجة أنه لم ينتبه لي.

في أغلب الوقت كان يتحدث مع السرير وكانت السعادة بادية عليه وهو يخبره عن الكثير من تفاصيل حياته.
أما الكرسي فهو يتشاجر معه اليوم ليتصالحا غداً.
ولم يكن يتحدث مع الخزانة كثيراً. أنا أعتقد بأنها خجولة.
كنت أحسده على حديثه مع أصدقائه وأتمنى لو أستطيع أن أشاركهم.
فقد كنت أتسلى بالاستماع لحديثه، فالمكان ممل هنا.
ولم يكن في الأمر ما يزعجني إلا عندما يتحدث مع الكرسي عن أشياء غير لائقة.
وهذا الأمر مزعج لأنه لا يراعي وجود أمي.

وفي إحدى زيارات المتدربين تخطى حدوده،اعتاد أن يقابل المتدربين بوجه عابس، ولا يجيب على أي من أسئلتهم.
وفي تلك الزيارة جلست إحدى المتدربات على الكرسي، وعلى ما يبدو لم يعجبها الكرسي فقد كانت تغير من جلستها كل دقيقة.
وعلى غير العادة بدأ أحمد بالابتسام، وكتم ضحكاته بدون أي سبب.
وبعد أن ذهبوا، أخذ يتحدث مع الكرسي بوقاحة حول ... المتدربة وما فعلت بالكرسي عندما جلست فوقه.
غضبت منه كثيراً، لم يكن من اللائق أن يتحدث هكذا وبصوت عالٍ في حضور أمي.
كنت أريد أن أبرحه ضربًا، لكني استمعت لتعليمات الطبيب بأن أتقف عن ضرب من يغضبني وأتحدث معهم، كتمت غضبي وتحدثت معه.
تجاهلني وقال: بأن الكرسي هو من بدأ الأمر، وعلي أن أتحدث معه.
فأجبته بغضب: نحن لا نستطيع فهم لغة صديقك ولا أن نسمعه، لكنّا نسمع حديثك الوقح بكل وضوح.
كنت قد شددت قبضتي، ومستعدًا للكمه في وجهه، عندما التفت للسرير، توقعت بأن السرير يقول له شيء؛ لذا انتظرت قليلاً.
عقد يديه على صدره وقال للسرير " لكنه ليس ذنبي"
سكت مرة أخرى وأنزل رأسه للأرض.
بعد ذلك اعتذر مني وقبلت اعتذاره وذهبت لسريري، أما هو فركل الكرسي ومن ثم ذهب للسرير.

بقيت أفكر ما الذي قاله له السرير وجعله يعتذر؟.
كان هذا حوارنا الأول.
كنت مترددا في الحديث معه مرة أخرى.
قلت لنفسي ربما نصبح أصدقاء، فهناك شبه بيننا.
عرفت قصته من خلال استراقي السمع لحديثه مع أصدقائه.
الأمر كان كمن يستمع لشخص يتحدث في الهاتف، فقد كنت أسمع ما يقوله فقط.
لقد وقع من السلم وضرب رأسه، ومن بعدها أصبح قادراً على أن يسمع الجمادات ويتحدث معها.
يقول بأن أباه أخذه لكل الأطباء والشيوخ والدجالين، وقام بضربه عدة مرات لكن دون جدوى.
وبعد أن يأس من الأمر أحضره إلى هنا؛ لأنه لم يستحمل وجود ابن مجنون في المنزل.

أنا أفهم شعوره جيدًا، فجميع أهلي لا يريدون أن أتحدث مع أمي.
في البداية كانوا يحاولون أن يقنعوني بأنها ماتت، ولا يريدون أن أتحدث معها،.
لكني لم أستمع لهم فأمي معي، الأم لا تموت.
بعد فترة أصبح الأطفال يزعجونني بالسخرية مني ومن أمي؛ لذا كان علي أن أدافع عن نفسي وعنها؛ لذا قمت بضربهم، طردت من المدرسة.
ظل إخوتي يحاولون أن يمنعوني من الحديث مع أمي، لكني رفضت وتوقفت عن الحديث معهم وأصبحت أتحدث مع أمي فحسب، وإذا سمعت أحدا يتحدث عنها قمت بضربه وتأديبه.
كانوا مصرين على أن يبعدوني عن أمي لكني رفضت؛ لذا قاموا بإحضارنا إلى هنا.

قلت لنفسي بإمكاننا أن نصبح أصدقاء، استأذنت من أمي وذهبت لأحدثه،.
كان جالسًا في الكرسي عندما وقفت أمامه وقلت له: " أنا خالد زميلك في الغرفة وأمي لم تمت وهي معي هنا"
تفاجأ من وقوفي أمامه وارتبك ولم يجبني بغير : "أهلاً" ومن ثم سكت،.
عرفت من جوابه كيف ستصبح علاقتنا. ولم أنزعج من الأمر، لكني انزعجت لأني لن أستطيع معرفة ما قاله السرير.
وبقت علاقتنا هادئة دون أي حديث أو نقاش إلا ما ندر، وإذا تحدثنا لا يزيد الأمر عن بضعة كلمات قليلة.

لم يعجب الطبيب سكوتنا، وطلب من الممرض أن يشجعنا على الحديث أكثر،.
أصبح الممرض يقضي وقت أكثر معنا، وقد كان لطيفًا معي ويحضنني ويهتم بي. لكن أحمد لم يستجب لمحاولاته بجعله يتحدث معنا.
لم أنزعج من الأمر، فقد كان مناسبًا لكلينا.
فأنا لا أزعجه بحديثي، وهو لا يتحدث عن أمي أو يزعجها.

ذات يوم دخل علينا الممرض، ومعه مجموعة من العمال، وقال لنا بأن هناك مفاجأة جميلة.
سوف يأخذون الأسرة القديمة ويأتون بأسرة جديدة.
قفز أحمد من مكانه وهو يصرخ : " لا أنا أحب سريري"
أمسكه الممرض بهدوء، وأبعده ليتحدث معه. واستغربت؛ لأن يده لم تتجه لأسفل جسم أحمد مثل ما اعتاد أن يفعل معي.
كنت أتابع بصمت، ولم أتدخل مثل ما أوصتني أمي.
قال له الممرض، بأن الأسرة قديمة وبحاجة أن تستبدل، والأسرة الجديدة متطورة ومريحه، وأخذ يصور له السرير الجيد.
لم أرد أن يأخذوا سرير أحمد، لكني أردت أن أجرب السرير الجديد.
بينما كانوا يتحدثون ذهب العمال للسرير ورفعوه لأخذه.
بعدها حدث كل شيء بسرعة.
صرخ أحمد بقوة، وقفز أمامهم ليمنعهم من الخروج.
ارتبك العمال وتعثر أحدهم بالكرسي.
قفز أحمد من مكانه، وحضن الكرسي وهو يصرخ : لا تؤذوه.
أمسكه الممرض من الخلف، وألصق جسده الضخم بجسد أحمد، ومنعه من الحركة. وأمر العمال بإخراج السرير.
أخذ أحمد يبكي، وهو يحاول أن يفلت من الممرض.
أردت أن أساعده لكني كنت خائفًا، تركتهم يأخذوا سريري بدون أن أفعل أي شيء.
بقى الممرض ملتصقًا به لفترة، حتى بعد أن هدأ، ثم تركه وخرج.

وبعد ساعة أحضروا الأسرة الجديدة، كانت أسرة معدنية بفراش مريح ويمكنك تعديل وضعها حسب رغبتك، وعاد الممرض ومعه الطبيب.
ذهب أحمد للطبيب، وهذه المرة امتلكت الشجاعة لأقف بجانبه، رغم أن أمي طلبت مني أن لا أتدخل، لكني لم أستطع أن أبقى مكاني.
قال للطبيب: لا أريد هذا السرير أريد سريري. كان منفعلاً وفي صوته بحة حزينة.
- هذا السرير أجدد وأجمل وسوف تحبه.
- لا أنا لا أتخلى عن أصدقائي.
ضحك الممرض بسخرية، ونظر نحوه أحمد بحقد وغضب. وأنا كورت قبضتي استعدادا للهجوم.
- سالم أذهب لترى المرضى في الغرفة المجاورة.
ذهب الممرض ونظر الطبيب نحوي، كان يقول لي : لا تتدخل.
تراجعت للخلف قليلاً.
أخذ نفس عميق ووضع يده على كتف أحمد
- أحمد السرير الجديد سيصبح صديقك أيضًا، من الجيد أن يكون لك أصدقاء جدد.
نظر أحمد نحو السرير الجديد، ثم نحو الخزانة والكرسي.
أبعد يد الطبيب وصرخ : لا أريد هذا السرير، أريد سريري أعد لي سريري، وإلا سوف تندمون.
تراجع الطبيب وقال بغضب: لقد ذهب السرير، إنه في طريقه الآن للمحرقة تقبل الأمر.
تجمد أحمد مكانه لبضعة ثوان، نظر نحو الطبيب بذهول وصدمه.
- من الذي فعلها سالم؟ أليس كذلك سالم من قتل سريري؟
- اااه... لا إدارة المصحة من أمر بذلك. قال الطبيب مرتبكاً.

سكت أحمد للحظات، ومسح عينيه، لم أستطع تبين ملامح وجهه من مكاني لكني رأيت القلق في عيني الطبيب.
"ستندمون" صرخ أحمد.
ثم ذهب للكرسي وجلس،ووجه أحمر من الغضب.
غادر الطبيب الغرفة دون أن يقول أي شيء، وملامح الغضب تعتلي وجهه.

استيقضت في صباح اليوم التالي ورأيت أحمد في مكانه. والنظرة الغاضبة نفسها تعتلي وجهه.
ظننت أنه بقى في مكانه طول الليل.

في نفس اليوم اليوم سقطت خزانة الممرضين فوق الممرض سالم، وسحقت كل جسمه.
وبعدها بدأ الكابوس في المصحة، وأصبحت الحوادث الغريبة يومية، وتستهدف كل طاقم إدارة المستشفى.
أبواب تفتح فجأة وبقوة لتصيب أحدهم، كراسي تتحرك من أماكنها وتسقط من عليها، أرفف تسقط على الأقدام سكاكين تطير، وحوادث أخرى.

أحمد لم يتحدث مع أحد من يومها، أصبح صامتًا مثل أصدقائه.

حسام ناصر المسكري