رحل مساء أمس بهدوئه القارس، وحلَّ صباح اليومِ الأحد بوقارٍ لم أشهدُ له مثيلا من قبل، زهرُ الياسمين يملأُ المكان، وعبقهُ فاح وكأنهُ يزيد من صباحي هذا لطفًا فوق لطفه.
هممتُ لأوقظ ابني حسام كعادتي وإياه كل صباح، ثم تراجعتُ وحملتُ نفسي أقطف ما تفتح من الياسمين، ثم صنعتُ منهُ طوقًا فأطوق به عنق حسام.
كنتُ جالسةً على الكرسي الهزاز وذهني شاردٌ يبحث عن جوابٍ لسؤال حسام ليلة أمس عن لون المطر، حتى سمعتُ طرقات عصا حسام تقترب فأفقتُ من شرودي.
- وأخيرا استيقظتَ يا حسام!
طوقتهُ بالياسمين الأبيض، وبدأ حسام يمرر يدهُ اليمنى على العقد وكأنني أطوقهُ الياسمين للمرة الأولى في حياتهِ.
حسام طفلٌ كفيف منذ الولادة، كفَّ الله عنهُ ظلام الدنيا فأبصر نور الحلكة داخل عينيه، ابني حسام الآن يبلغ من العمر ست سنوات، وها قد مضى ثلاثة أعوام منذ وفاة والده، آه كم تمضي الحياة بنا سريعًا، بعد عامٍ من الآن سينضم ابني حسام لفوج الطلاب في المدرسة حين يبلغ السابعة من عمره.
قطع حسام هذيان نفسي بسؤاله:
- هل سنذهب للحديقة العامة اليوم يا أمي؟
- بكل تأكيد عزيزي حسام.
وحينما برد النهار قبضتُ بيميني يسارَ حسام ومضيتُ به إلى هناك، اعتدتُ وحسام أن نمشي كل عصرِ أحد في الحديقةِ العامة عندما تبتسم الشمسُ بحنانٍ قبل أن تأفلَ في غياب، أقرأُ لهُ وهو يستمعُ لي، كان يحبُ كتب المنفلوطي كثيرا، طفلٌ في السادسة ويتعلق بكتبِ مصطفى حد التعلق!!. نختار الكرسي الخشبي ذاتهُ كل مرة نجلسُ تحت ظلِ شجرة الكرز العظيمة بالقربِ من البائع المتجول لعربة الآيس كريم -العم كريم- وكان العم كريم يسعدُ بنا، ليستمع في كل مرةٍ كتابًا جديدًا من كتب مصطفى لطفي المنفلوطي.
هممتُ لأشتري الآيس الكريم لي ولحسام، ثم عدتُ وسألته عن الآيس كريم المفضل لديه؟
سألني ما لون الآيس كريم عند العم كريم؟
لزمني صمتٌ دفينٌ لبرهةٍ، فكيف لطفلٍ كفيف لا يُبصرُ الألوانَ يسألُ عن لونِ الآيس كريم!
ثم أجبتهُ وبابتسامة لطيفة: عندهُ آيس كريم بلون الكرز، وآيس كريم بلون المانجو، وآخر بلون الحليب.
لم أفقه ما يدور في خلد حسام آنذاك، ولكني لحسنِ الحظ فقهتُ أن طعمَ الألوان يكمن في ثمارها، فطعمُ اللون الأحمر يكمن في لذة الكرزِ، واللون الأصفر في حلاوة المانجو، واللون الأبيض في طهارةِ الحليب.
اليوم اختار حسام آيس كريم بلون الكرز!.
جلستُ وحسام، أقرأُ لهُ وهو يستمع، والعم كريم على مقربة منا، يركز سمعهُ نحونا، الأحد الماضي قرأنا كتاب العبرات للمنفلوطي، واليوم نشرعُ في كتابهِ النظرات، لا أعلم ما سر تعلق الصغير الكفيف ذي السادسة بكتابات مصطفى لطفي.
تابعتُ لهُ القراءة وهو يستمعُ بصمتٍ جميل حتى أوشكنا على الانتهاء من الجزء الأول حين صرخت السماء تزمجر بالرعد معلنةً بداية لمساءٍ ماطرٍ.
أخذ حسام يرقص فرحاً تحت ذرات المطر المتساقطة وهو يصرخ بفرحٍ: "مرحبًا أيلول جاء المطر، مرحبًا أيلول جاء المطر".
تركتهُ يلهو كما شاء لهُ، بينما الأنظار ترقبهُ في غرابة، حتى رحلت الشمس وكسى الغروب المكان فأمسكتُ حسام بيساره عائِدَينِ إلى المنزل، حمدتُ اللهَ وشكرتُ أيلول لكرمِ قدومه الماطر، فالابتسامة لم تفارق محياه بتاتًا. ونحن في طريق العودة سألني حسام بحيرةٍ واضحة:
-أمي!! ما لون المطر؟
حتمًا لم أعرف لهُ جوابا، ولكني مسحتُ على رأسه بحنانٍ وقلتُ لهُ: هيا لنكمل إلى المنزل.
وكعادته كل مساء، شرعَ إلى غرفتهِ باكرًا هذه المرة. أسبلَ عن المسجل أمامهُ وبدأ في تسجيلِ صوته.
لم أسترق السمع إليهِ يوما، حتى بحجم ما سرقني الشغف لمعرفة دواعي تسجيله. هذه المرة الخامسة - أو السادسة ربما - وهو يحاكي جهاز التسجيل بفمهِ لساعةٍ كاملةٍ دون انقطاع.
مضى حسام على هذه الحال شهرين، أي ما يقارب ثمانيةَ أيامُ "أحدٍ" متتالية، أتممنا معظم كتب المنفلوطي قراءةً واستماعًا.
اليوم كان ماطرا منذ الصباح، وازدادت زهور الياسمين حُلةً من الجمال بقطراتِ الندى عليها، صنعتُ الطوقَ لحسام كالعادة، وطوقت عنقه به، حسام يحب الياسمين كثيرا، حسام اليوم كبر وانضم إلى مدرسة البصيرة في الحي، تعلم القراءة والكتابة، وأجاد برايل، هو دائما من المتميزين، كان طموحهُ أن يدرس بالجامعة، وها هو اليوم في أولى سنواته الجامعية، لم أعد أقرأ لهُ إلا أننا ما زلنا نزور الحديقة كل أحد، لم يعد يسألني عن لون المطر إلا أنهُ لا يكف عن تساؤلاته التي تروي عبقريته الحسامية.
كنتُ دائما أمضي به إلى الحديقة العامة، وأطوق عنقه بالياسمين، أما اليوم فحسام هو من باشر بما كنتُ أفعلهُ كل أحد، طوق عنقي النحيل بالياسمين وأمسك يميني بيساره، ومضينا إلى الحديقة وجلسنا تحت شجرة الكرز العظيمة بجوار العم كريم الذي ناولنا آيس كريم بلون الكرز،
وبعد حين أخذ حسام بيميني وكأنهُ لم يمسك بهما من قبل، ثم سألني:
- ما لون المطر يا أمي؟
ابتسمت دونما إجابة تذكر، ثم أكمل حديثه:
- أحبكِ يا أمي.. وناولني شريطا تسجيليا بلون الكرز مثلما اختارهُ هو منذ سنين، وغمرتني الدهشة عما فيه، إذ لا يزال حسام يحتفظ بشريط عمره أكثر من عشرين سنة ولا زال يعيش حتى الآن ..
قال لي:
"لم أعرف الكتابة ولم أستطعها يوم أن كنت في السادسة، فسجلتُ لكِ كتابا من تأليفي، كنتُ أجلس لأسجل فيه ليلة كل أحد بعد رجوعنا من النزهة، أمي سأكون أديبا معروفا يُشار إليه بالبنان"..
فتحتُ شريط التسجيل، وضغطتُ على زر التشغيل، وبدأت أستمع إليه بصمت:
..."أمي .. اليوم رأيتُ لون المطر، لم يعرف أحدٌ لونه غيري، أمي أتذكرين حين صرختُ "مرحبا أيلول .. جاء المطر"، حينها لامستُ لون المطرِ لأول مرة..
أمي.. لون المطر لا يشبه طعم الكرز ولا طعم المانجو ولا حتى طعم اللبن..
أمي .. لون المطر بطعمكِ أنتِ..
لون المطر بطعم الياسمين يا أمي..
إليكِ أمي: "ياسمين" كتابي وأنا في السادسة من عمري"..
أوقفتُ زر التشغيل ومضيتُ أبكي فرحا وحزنا، حسام لا يشبهه أحد منذ أن كان صغيرا كفيفا حتى بلغ اليوم العشرين من عمره وبين أروقة جامعته.
تلك كانت صفحة الإهداء لإصداره الأول الذي كان عنوانهُ: "رأيتُ لون المطر"!!..
ملاحظة: اليوم .. حسام أستاذ جامعي ودكتورٌ في قسم اللغة العربية بالجامعة، ولهُ إصدارٌ جديد في أيلول القادم "حينما أُبصر ما لا يبصرون"..

عويشة بنت عبدالله المعمرية