يوصف التاريخ بأنه مرآة عاكسة للأدوار التي لعبتها وتلعبها الأمم والحضارات ولمآثرها التي خطتها على صفحاته، ووعاء تخط عليه حاضرها وتستشرف به مستقبلها.
والحضارة العمانية كغيرها من الحضارات وضعت بصمتها في التاريخ الإنساني وأوغلت فيه عميقًا من خلال تجذر علاقاتها مع العالم الذي حرصت على مد جسور التواصل مع مختلف حضاراته وثقافاته. وإذا كانت هناك حضارات وأمم قد خطت على صفحات التاريخ بالأحمر القاني انطلاقًا من مبادئها وأيديولوجياتها القائمة على الاستعمار والإقصاء واستعباد الشعوب ونهب ثرواتهم، فإن الشرف كل الشرف للحضارة العمانية التي وهبت للحياة إكسيرها واحترمت الإنسان وحقوقه وثقافته وطقوسه وتراثه، وأعلت منزلته ونظرت إليه على أنه مفتاح للخير والتنمية، فتبادل العمانيون مع أهل الحضارات الأخرى في العالم القديم ثقافاتهم واشتركوا معهم في المصالح احترامًا وتبادلًا، وأظهروا رسالة الإسلام في أبهى صورها وأنصعها في البلدان التي وصلوا إليها وتعاملوا معها، وفي سبيل حرصوا على مد جسور التواصل المبنية على التسامح والمحبة والألفة، ما كان لذلك أثره وتفاعله.
وإزاء ذلك، من منا لا تحدوه الرغبة الجارفة في إعادة قراءة التاريخ العماني والوقوف على مفاصل الدور العماني ومراحله مع الآخر على مدى تعاقب الحقب، والاطلاع على نمط حياة أجدادنا ومنجزاتهم ومدى الشعور الإنساني الرفيع الذي تجسد في إيجاد الوسائل المعينة من أجل التواصل مع سكان الحضارات الأخرى، وفي الطرائق التي التمسوها ليعيشوا أعزة كرامًا ويتركوا لأخلافهم شهادة الجودة التي تكون بمثابة إضاءة طريق إلى إنجاز جديد؟
إن ندوة "التواصل الحضاري بين عُمان والعالم" التي اختتمت أمس في مدينة صلالة ونظمتها اللجنة الرئيسية للاحتفاء بنزوى عاصمة الثقافة الإسلامية، ومن خلال جلساتها والأوراق التاريخية المقدمة فيها لم تُعِدْ اكتشاف التاريخ العماني والدور الحضاري لعُمان مع قارات العالم، وإنما أكدت الندوة هذا التاريخ وأضاءت محطاته التاريخية كحالة خاصة لعُمان وكنتيجة منطقية لطبيعة التكوين النفسي والخلقي والفكري للشخصية العمانية المتسامحة، أو بالأحرى المطبوعة على التسامح وعلى كراهية العنف والغلو والتطرف.
لقد ضرب لنا التاريخ العماني أروع الأمثلة في قيم التسامح والتواصل الحضاري مع الآخرين، فمآثر العمانيين القدماء والتأثير الحضاري والثقافي العماني لا تزال شواهدها تحكي ما سطره العمانيون، حيث يذكر التاريخ الكثير من أسماء الأساطيل التي صالت وجالت في البحار والمحيطات، والدور الذي لعبته البحرية العمانية في ربط جسور المودة والتقارب مع كافة الشعوب شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبا، فقد جابت السفن العمانية البحار من الصين إلى الولايات المتحدة مرورًا بمعظم الموانئ المعروفة في مختلف القارات، ومنذ القرن الثامن الميلادي عرف العمانيون خطوط الملاحة البحرية، وساعدوا في الكشوفات الجغرافية الشهيرة في العصور الوسطى، وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سجلت الرحلات البحرية العمانية سطورًا من نور في نشر المحبة والسلام مع شعوب عديدة, أشهرها الرحلات البحرية التي قام بها البحارة العمانيون إلى كانكون في الصين وموانئ أخرى على امتداد الطريق البحري من عُمان إلى الصين، مرورًا بالهند وسنغافورة ومعظم موانئ جنوب شرق آسيا هذا في اتجاه الشرق، أما في اتجاه الغرب فأشهر الرحلات تلك الرحلة التي قام بها أحمد بن نعمان الكعبي إلى الولايات المتحدة عام 1840 مبعوثًا من سلطان عُمان آنذاك، ومقيمًا علاقات دبلوماسية مبكرة جدًّا مع أميركا عقب إعلان قيام الولايات المتحدة مباشرة.
هذا التاريخ العماني العريق الذي أشع بنوره على العالم عاد يتجدد في عصرنا الحاضر بفضل وعي وحصافة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإيمانه بأهمية إقامة علاقات قوية ومتينة مع مختلف بلدان وشعوب العالم المعاصر وعلى قاعدة التسامح والمحبة والصداقة وتبادل المنافع وعدم التدخل في شؤون الغير، ومن ثم أعاد للرحلات البحرية العمانية بهاءها وألقها التاريخي ممثلًا في رحلات السفن العمانية المعاصرة والتراثية التي تحاكي السفن القديمة مثل جوهرة مسقط، وسفينة شباب عُمان والسفينة السلطانية "زينة البحار" التي أهداها جلالة السلطان المعظم إلى شعب سنغافورة لتقام في متحف هناك محملة بكنوز تراثية شهيرة لتذكرة الأجيال المعاصرة بتاريخ العلاقات الحميمة الموغلة في القدم بين الشعبين العماني والسنغافوري .
ونختم بما افتتحت به الندوة من أن عُمان أسهمت من خلال هذه الصلات الحضارية في أن تضع لها موطئ قدم في البناء الحضاري الإنساني في مراحل تاريخية عديدة، وأن يكون لها دور محوري بارز كركن من أركان تلك الحضارات، لما تملكه من إمكانات وقدرات على التواصل والتفاعل مع من حولها من الأمم، أنتج هذا التواصل شخصية عمانية حضارية رصينة وفريدة في مجال التواصل الحضاري مع الآخر.